أبناء القمم

أبناء القمم

06 مارس 2015

أطفال فلسطينيون في تظاهرة تضامن مع الأسرى (14 أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
لم أنم، تلك الليلة التي سبقت أول لقاءاتي معهم في ورشة الكتابة الإبداعية في رام الله. كيف سأنظر في عيونهم؟ بأي لغة أوضح لهم دور الكتابة في مقاومة الغياب والألم؟ كيف سأبدو وأنا أشرح لهم (أنا الممتلئ بأبي حد التخمة)، أن الكتابة طريقةٌ راقية للفضفضة والبوح؟ هذه ليست ورشة كتابة عادية، وهؤلاء ليسوا طلاباً عاديين، وإحساسي ليس عادياً. أنا أمام طلابٍ سُرق آباؤهم من أزمانهم، وسرقت أزمانهم من آبائهم، أزمانهم الفارغة من صوت الأب، وهو يقول لهم على باب البيت، قبل الصعود إلى حافلة المدرسة: (بدي أجي بابا اليوم أسال عنك في المدرسة. أو على الهاتف من عمله: شو اعملت يا حبييي في امتحان العلوم؟ أو ليلاً على العشاء: شو بدك لون البنطلون يابا أسود ولا بني؟ أو ظهراً أثناء الغداء: مش حكيتلك، يا حبييي، ما تفتح حسابك على الفيس وقت الامتحانات؟).
هؤلاء أطفال ينهضون في الصباح الباكر، ويستعدون للذهاب إلى المدرسة، من دون أن يسمعوا صوت رجل في البيت، رجل غاضب وضجر، ويتعارك بالصوت، أو النظرات، مع الأم، حول أمور غامضة لا يفهمونها، رجل وجد ليعبئ مكاناً مهمّاً جداً في ضحكاتهم وأصواتهم ودلعهم ومطالبهم الرائعة وشغبهم الأروع. ثمّة أم عظيمة، تتحرك بينهم مالئة لحظاتهم حباً وعناية وابتسامات. لكنْ، ثمة مقعدان شاغران في أرواحهم، يتأرجحان في الريح الوحشية خفةً وشحوباً هما: ضحكة الرجل الكبير، وهو يشاهد مسترخياً على الكنبة المسلسل الفلسطيني الفكاهي (وطن على وتر)، وسعاله الواضح، وهو يتقدم نحو بوابة البيت في أمسيات الشتاء؟
كانوا خمسة عشر، بنات وصبيان. كانوا صامتين، يحدقون بي. وقفت أمامهم وكأني أقف أمام طلاب مدرسة أول مرة. كنت مرتبكاً ومشلولاً، والكلام يقف على حواف قلبي، وكأنه طيور ولدت للتو، وتستعد لأول تجربة طيران. قلت لهم: أهلاً بكم في جنّة الكلام، واصلوا التحديق بي، وخلت أحدهم سيقول لي بعد ثوان: أية جنة هي هذه التي بلا أب؟ كان أبي السبعيني قد اتصل بي قبل اللقاء بدقائق، يسألني (أنا الخمسيني الموغل في الدلع)، إن كنت أفضّل الساعة التي سيشتريها لي برباط معدني أم قماشي. خجلت من نفسي، فازدادت طاقة القاعة تلعثماً، ولاحظ منسق (مؤسسة تواصَل) التي تشرف على الورشة، بالتعاون مع هيئة شؤون الأسرى، الصديق أنس الأسطة، ما يشبه اضطراباً لجسدي وارتعاشاً لصوتي، فاقترب مني هامساً: هذا متوقع، سيتفاعلون بعد قليل. كانت مهمة ثقيلةً تجاوزت عقباتها النفسية بصعوبة، كانت إحدى أهم مهماتي نزع الإحساس لديهم بأي علاقة مع المدرسة، وتوابعها من دفاتر وجرس وعلامات وطريقة جلوس، بعد لقائيْن. كانت القاعة تضج بأجولتهم وأسئلتهم ونصوصهم العجيبة الممتلئة مقاعد فارغة لرجال غائبين. مؤنس كتب عن الغزال الذي قرر أن لا يذبحه في النهاية، لأنه ذكّره بالفلسطينيين الضحايا. سجود كتبت عن الرغبة في الطيران واللقاء بكائناتٍ خرافية، وكان بجانبها مقعد فارغ لشخص عظيم. آخرون كتبوا عن الرمل الذي يسرق الخطوات، وعن الضياع في المتاهة، وعن الآباء الذين حرروهم من السجن بلعبة كلمات سحريةٍ، وأفكار في التخفي والخيال.
انتهت دورة رام الله في الكتابة الابداعية لأطفال الأسرى الفلسطينيين ـ القمم. وكان الطلاب على موعد مع رحلة إلى أريحا. في الحافلة، طلبنا منهم أن يغنوا الأغاني البعيدة عن الهم الوطني والبيتي، فاستجابوا فرحين، صرخوا في الخلاء صرخات عميقة. هذه المرة، استخدمت حناجرهم للصراخ الذي بلا معنى، بعد أن كانت الحنجرة الفلسطينية منذورة للصراخ على جنود الاحتلال وفي التظاهرات. كتبوا رسائل لآبائهم، ودفنوها تحت التراب، في ما يشبه تصديقاً لفكرة أن الرسائل ستصل إلى آبائهم المعتقلين عبر أنفاق خاصة. كان يوماً حافلاً بالفرح والحقول والصراخ والموسيقى والرسائل. بعد يومين، أبدأ دورة كتابة جديدة مع أبناء قمم نابلس. سعيد جداً، في هذا الاشتباك الوجداني الجمالي الوطني مع فراشات فلسطينية، محرومة من حقولها المحبوسة في سجون الاحتلال.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.