رحلة قسرية إلى زنزانة غير آدمية

رحلة قسرية إلى زنزانة غير آدمية

05 مارس 2015
+ الخط -
عزيزي الإنسان: إن كنت تقرأ هذا المقال في مكتبك، أو في المقهى، أو أي وسيلة مواصلات، أرجوك أن تؤجل قراءته، حتى تذهب إلى منزلك، وتحديداً في غرفة نومك. حسناً، أنت الآن وحيداً في غرفة نومك، مسترخياً على سريرك، متجنبًا برودة الطقس الشديد، أو جالساً على كرسيك، وأبواب نافذتك مفتوحة، وشعاع الشمس يداعبك، وتمسك به، وتجده مسترسلاً بين يديك.
انظر حولك، وتأمل محتويات غرفتك جيداً. انظر إلى سريرك، ومرتبتك المريحة، تأمل مكتبتك ومحتوياتها، ملابسك الأنيقة، متعلقاتك الشخصية، وعطرك المفضل، اللاب توب الخاص بك، والذي يتيح لك أن تتواصل مع العالم الخارجي، وأن تعرف جميع الأخبار وأنت جالس في مكانك، السماعات الضخمة في غرفتك، والتي تضع عليها أغاني المطربين المفضلة لك، وتسمعها في أي وقت تشاء، عبوات النسكافيه والكباتشينو وعبوة البن التي تصنع منها فنجان القهوة، لتستمتع بمذاقها مع صوت فيروز، وهي تشدو بعذب الألحان. تأمل هاتفك المحمول، والذي تتحدث فيه مع زوجتك، خطيبتك، حبيبتك، أو أقاربك، أو أصدقائك، تأمل جيداً أناقة لون جدران غرفتك، واللوحات المعلقة عليها، والتي عندما تنظر إليها تتذكر باسماً الشخص الذي أهداك إياها.
ثم أغمض عينيك، وتخيل معي أنك انتقلت إلى مكان آخر غير منزلك وغرفتك (قسراً). لا تهم الأسباب، فأنت في حكم الديكتاتور الأعظم، عبد الفتاح الذي أصبح في عصره المنطق هو (اللامنطق). إن كنت تسير وحدك في الشارع سيتم اعتقالك، وإن كنت تحمل كتابًا يحمل فكرًا واستوقفتك لجنة سيتم اعتقالك، إن كنت جالساً على المقهى، أو كنت تتظاهر سيتم أيضاً اعتقالك.
فجأة وبدون سابق إنذار، أو مقدمات. أنت، الآن، معتقل في غرفة تقريباً بحجم غرفة نومك، غير أن هذه الغرفة تسع 15 أو 20 شخصاً، وجدت نفسك مع نحو ستين شخصاً من تجار المخدرات وبلطجية ولصوص، هذه الغرفة أرضيتها مغطاة بطبقة واحدة من البطاطين، ستنام عليها وسيكون غطاؤك بطانية واحدة في هذا البرد القارس. مهلاً، لا تنزعج، الآن، فنحن مازلنا في البدايات.
سيكون نومك، في هذه الغرفة، بالتناوب مع ستين شخصاً متلاصقين مع بعضهم، لأن الغرفة، بالقطع، لا تتسع لكل هذا الكم من البشر، ستقف بضع ساعات، وتجلس بضع ساعات، وتنام سويعات. ولكن، حين تنام لن تمدد قدميك، ولن تنام على ظهرك، ستنام على جنبك (هذه النومة تسمى السيف)، حتى تفسح مجالًا لغيرك، لكي ينام مثل نومتك.
الوجوه متلاصقة، والأنفاس متشابكة، والأجساد متلاحمة مع بعضها.
في آخر جدار هذه الغرفة، شباك متناهي الصغر، محاط بأسلاك، ولا توجد على حائط هذه الغرفة سوى بضعة مسامير معلق عليها أكياس بلاستيكية، بداخلها حذاؤك، ملابسك، طعامك وشرابك الذي سيحضره لك أقاربك أو أصدقاؤك. في آخر الغرفة، جدار محاط بملاءة، بداخله حفرة صغيرة في الأرض، وفوقه بشبر واحد يوجد صنبور مياه. يسمون هذا الجدار حماماً، لو كنت سعيد الحظ ستجلس، وتنام بعيداً عنه، لكي لا تكون مباشرة أمام رائحة مخلفات البشر وكشف عوراتهم، لأن الملاءة المغطاة دائماً ما تكون كاشفة.
إن كنت من غير المدخنين، أنصحك أن تبدأ بالتدخين، فأنت، في كل الحالات، ستكون من المدخنين، شئت أم أبيت. كل من في داخل هذه الغرفة مدخنون. وهنا، لا أعني بالتدخين السجائر فقط، فهم يُدخنون ويبتكرون شرب جميع أشكال المخدرات وأنواعها، من الحشيش إلى الترامادول. ولن يمنعك من مشاهدة جدران هذه الزنزانة الحقيرة سوى شابورة دخان السجائر والحشيش على مدار الأربع والعشرين ساعة.
ستجلس على الأرض، بجانبك كيس كبير للقمامة، فيه بقايا الطعام والشراب الخاص بكل من في الغرفة. يجتمع حوله الذباب والصراصير والناموس، ستلتفت الجهة الأخرى، لأنك لن تتحمل هذه القاذورات، ستجد على البطانية المفروشة على الأرض، والتي يجب أن تتذكر أنها مكان نومك ملطخة ببقايا الطعام، وأعقاب السجائر، ومحملة بالتراب والحشرات الصغيرة، وهذه الغرفة، بالقطع، لا يدخلها ضوء الشمس.
ستجلس، الآن، في ركن ركين، تتصارع في داخلك المواقف والذكريات. أنت، الآن، منقطع عن العالم الخارجي. تتساءل في أسى: هل من في الخارج يعلمون شيئاً عن معاناتي؟ هل يتذكرونني؟ هل يتحدثون عني؟ لست ناشطاً سياسياً مشهوراً، لكي يهتم بي الإعلام، وتنتشر صوري علي صفحات التواصل الاجتماعي! لا تعرف ماذا تفعل، تريد أن تصرخ وتبكي على مصيرك البائس، وأنت جالس في زنزانة حقيرة، تأبي الخنازير أن تعيش فيها، مع تجار المخدرات واللصوص والبلطجية، ليأتي واحد من هؤلاء، ويقول لك "أعطني خمسين أو مائة جنيه من أجل نومتك"، "أرني هذه الساعة التي في يدك، إنها تعجبني سأحتفظ بها".
بعدها، ستعود سريعاً إلى جعبة ذكرياتك، وتتألم في صمت. وتتذكر غرفة نومك وسريرك
ومرتبتك المريحة. ستتذكر عطرك وملابسك الأنيقة. ستتذكر نافذة غرفتك المطلة على الشارع، أو على الحديقة. ستتذكر شعاع الشمس المسترسل بين يديك. وستتذكر حبيبتك وأنت تحدثها في الهاتف. ستتذكر الطعام الشهي الذي تعده أمك أو زوجتك. ستتذكر أحاديث السمر مع أصدقائك. ستتذكر طفلتك ذات الثلاثة أعوام، وابتسامتها الساحرة، حينما تداعبها. ستتذكر وقت ضيقك، عندما تسير على شاطئ البحر، وتستنشق يوده، أو سيرك على كورنيش النيل، ستتداخل وستلاحقك الذكريات، لتصحو على صوت السجان، وهو يفتح باب الحجز، ويرمي (يلقي) على الأرض طعامك من الخبز والجبن والحلاوة.

مرت أيام وليال عليك، وأنت قابع مكانك. عندما تريد أن تحرك قدمك قليلاً، تسير داخل زنزانتك بخطى حذرة، حتى لا تدوس بقدمك على أحد. لا ترى النور مطلقاً، وتتمنى عرضك على النيابة، على أمل أن يتم إخلاء سبيلك، أو يتم إيداعك في السجن، فهو أرحم قليلاً من الحجز داخل القسم.
يوم واحد كل خمسة عشر، أو أربعين يومًا، هو المسموح لك فيه أن ترى ضوء الشمس والعالم الخارجي، من شباك عربة الترحيلات، في أثناء عرضك على النيابة. سيوقظك السجان في الخامسة صباحاً، ستشعر بارتياح، فأنت، أخيراً، سترى أحبابك، وهم في انتظارك. وسيضع السجان الكلابشات في يديك مع لص أو تاجر مخدرات، وستصعد سيارة الترحيلات، لا تجد مكاناً تجلس فيه من كثرة الأعداد، كل هذا وأنت مقيد بالأغلال، ستصل المحكمة، وستمكث في زنزانة أحقر كثيراً مما أنت فيها، لا تتعدي مساحتها ثلاثة أمتار مع عدد ضخم من السجناء، ممنوع عليك أن تدخل الحمام، لن يسمعك أحد، والمخبرون هناك آكلوا السُحت يأخذون مالك، ولا يلبون طلباتك، لتجد نفسك تتمنى، وتدعو ربك أن يرحمك من هذا الكابوس، وتعود سريعاً إلى زنزانتك.
ستمكث، طوال اليوم، حتى يتم عرضك على النيابة، لتفاجأ بأنه تم التجديد لك 15 أو 45 يوما، لتعود وأنت يائس، تحمل كل هموم الدنيا فوق رأسك. وأنت تسأل نفسك أسئلةً، لا تجد لها إجابة، لماذا أنا هنا؟ ما الذنب الذي اقترفته، لأكون بصحبة المجرمين واللصوص وتجار المخدرات؟ هل كل ذنبي أنني عاشق لتراب هذا الوطن، وأريده أن يكون أفضل؟ لماذا السجانون يعاملوننا أحط أنواع المعاملة؟
رغماً عنك، ستتذكر مشاعرك تجاه وطنك، وستتذكر كم كنت، ولازلت، على أتم الاستعداد أن تفديها بروحك. ستتذكر يوم 25 يناير، وهتافك عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية. .. كرامة إنسانية؟ يا للوجع والحسرة، أين نحن من كرامة الإنسان وحقوقه؟ أليست انتهاكات الشرطة ووزارة الداخلية، وقتلها المصريين وتعذيبهم، من الأسباب الرئيسية لقيام ثورة الخامس والعشرين من يناير؟
سترجع إلى الواقع، وتحاول أن تصبر نفسك، وتذكّرها جيداً أن دوام الحال من المحال، وأنه مهما اشتد ظلام الليل، حتماً سيأتي شعاع النور ليبدد الظلمات، وستشرق شمس الحرية، وستبدد خفافيش الظلام، وتتذكر أنه لو كانت دامت لمبارك، لدامت لعبد الفتاح السيسي.
B05F1A13-0A18-42AD-B939-398734E70692
صفوان محمد

ناشط سياسي مصري، من رموز شباب ثورة 25 يناير