كذب أبيض

كذب أبيض

01 ابريل 2015
+ الخط -

هو الذي أجبرها على أول كذبة، لكي تستمر حياتها معه، ولا تدخل في مشكلات تكون المخطئة فيها من وجهة نظر الجميع، فعلى الرغم من أنه حاصل على شهادات عليا، يعلقها بأطر مذهبة على جدران بيته، إلا أنه موظف بسيط، ورفض أن تعمل بعد زواجهما، واشترط عليها، بصرامة، أن تقطع كل علاقة كانت تربطها بأي جهة ذكورية، قبل زواجها، باستثناء والدها وأشقائها وأعمامها وأخوالها، أما سلالة الأعمام والأخوال من الذكور فقد شملهم الحظر. وفي الوقت نفسه، احتفظ بعلاقاته مع زميلات الدراسة، وأضاف لها علاقاته مع زميلاته والسيدات اللواتي يصلن إلى مكتب المحاسبة الذي يعمل فيه، لإنهاء بعض مصالحهن، فامتلأت ذاكرة هاتفه بأرقامهن وأسمائهن، ما أشعل معارك كلامية بلا طائل بينهما، على غرار أن تسأله دوماً: كيف تسمح لنفسك بأن يكون لك "صديقات وزميلات"، ولا تسمح لي بصداقة زميل دراسة سابق مثلاً؟
خرجت في ذلك اليوم الماطر بطفلتها الوحيدة إلى المركز الطبي الخاص بتطعيم الأطفال، وعند وقوفها في الشارع، في انتظار سيارة أجرة، تعيدها إلى البيت، مرت سيارة مسرعة، رشقتها وطفلتها بماء المطر الملوث بالطمي والوحل، فوقعت الطفلة أرضاً، وتجمع حولها بعض المارة يعرضون عليها المساعدة، منهم شاب لم يخف عليها، سرعان ما عرفها بنفسه حين ناداها باسمها مجرداً، فاستعادت ذاكرتها صورة ابن الجيران في حارتهم القديمة، وهكذا عرض عليها أن تصل بطفلتها إلى بيته القريب لتبدل ثياب الصغيرة، خوفاً عليها من البرد.
لم يستغرق الأمر طويلاً في بيته، حيث رحبت بها زوجته، وأبدلت ثياب طفلتها بملابس أحد أطفالها، ووعدتها زوجة جارها بزيارة قريبة لبيتها لمد جسر التواصل، بعد أن استعادت أمامها، هي والجار، ذكريات الجيرة والمودة بين العائلتين. استغرق الأمر منها كثيراً من التفكير حين اتخذت طرقها إلى بيتها، فزوجها الذي ينتظرها لم يعرض عليها توصيلها إلى وجهتها، مؤثرا البقاء في السرير، والرد على المكالمات الهاتفية وتنسيق المواعيد، فاليوم إجازته الأسبوعية، وعليها أن تستعد للرد على سؤاله عن ملابس الطفلة التي تبدلت، وفكرت أن تقول له الحقيقة وتواجهه، وأن تقول له إنها سوف تتواصل مع الجار القديم وزوجته، فهي بحاجة لمثل هذه العلاقة، لكي تجدد روتين حياتها، وستخبره أنها ملت من المجاملات مع عائلته وزميلات عمله اللزجات وأزواجهن ونكاتهم السمجة، وتمادت في أمنياتها، ورأت نفسها مع عائلة الجار وعائلتها في نزهة على شاطئ البحر، حتى أفاقت من تخيلاتها على صوت مفتاح باب البيت يدور، وبوجه زوجها المشعث الشعر أمامها، والذي تلقف  الصغيرة ورفعها بين يديه، بمجرد أن فتح الباب وسألها: من أين للطفلة بهذه الملابس؟
ازدردت ريقها ولم ترد سريعاً، ودلفت إلى الداخل، وألقت بنفسها على أريكة، وتلفتت حولها وكأنها تستجمع شجاعتها، حين لمحت على الجدار المقابل "روزنامة" معلقة، وعليها ورقة بتاريخ اليوم" 1 أبريل/نيسان". إذن، لديها مبرر أول كذبة في حياتها الزوجية، وكانت قد عاهدت نفسها ألا تكذب، ولو مرة، على زوجها، وانطلقت ضحكة سرية في أعماقها، وهي تتذكر ما قرأته، أخيراً، من خلال الشبكة العنكبوتية، أن الأميركان يكذبون بمعدل 200 كذبة يومياً، وأن سبعة من أصل عشرة لبنانيين يكذبون ليحافظوا على علاقاتهم الجيدة، وأن أربعة من عشرة منهم يمارسون الكذب بسبب طبيعة عملهم. وبدت لها ضحكتها أطول، فهي واثقة أن الشبكة نفسها تكذب أكثر مما تصدق، فحزمت أمرها وقررت أن تكذب أول كذبة، بسبب طبيعة حياتها الزوجية. فردت عليه بقولها إن ملابس الصغيرة تلوثت بسبب سيارة مسرعة، والتقت بمن أنقذها من البلل واحتمال المرض، حيث أبدلت ثيابها وجففت شعرها، وأنها التقت بجارة قديمة.

 

 

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.