داعش.. الجانب الآخر من المرآة [1-2]

داعش.. الجانب الآخر من المرآة [1-2]

28 مارس 2015

جنود عراقيون مبتهجون بطرد داعش من قرية قرب تكريت(9مارس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

يشكّل الاستثمار في الفانتازيا إحدى ميّزات التنظيم الذي يسمّي نفسه "الدولة الإسلامية". فهمَ غريزيّاً أهميّة تثبيت صراعه في حقل الخيال، وكأنّه بذلك يعوّض نواقصه في عالم الواقع. فهو يطبع الأذهان، حتى لو تكبَّد خسائر على الأرض، فتُضاعف ضراوتُه وميله للاستعراض الدمويّ من قدرته على الإقناع. فـ "الدولة الإسلامية" أكثر من تجسيدٍ للرذيلة، إنها شيطانيّة: على غرار عزرائيل في الكتاب المقدس، يدفعنا الكائنُ المريب إلى القناعة بأنّنا على الصّراط المستقيم، في حين أننا في واقعٍ ندمّر فيه أنفسَنا.

وهذا ما قد يبرِّر جزئياً ارتكاب جرائم ليست فقط بشعة، بل وبطريقة استعراضيّة، كحرق الطيّار معاذ الكساسبة، أو قطع رؤوس 21 مصرياً قبطياً على شاطئ ليبيّ. تصل إلى ذروة خطورتها، حين تدخل في سجال مع النفسيّة، وأشكال التوهُّم والحرمان والخوف من الآخرين، وذلك ابتداءً من معتنقي الإسلام الجدد، وانتهاءً بالسياسيّين والخبراء.

وتُستعمل في هذا الصدد لغةٌ فصيحة، إذ كلّ فئة تقذف في هذا التنظيم صدماتها وغمومها الوطنيّة. في الغرب، يقارَن خطر الدولة الإسلامية بأحداثٍ متنوعة، من أوشفيتز إلى الإبادة الجماعية في راوندا، أو حصار ساراييفو، وإن اختلفت هذه الأحداث كليّاً عن الظاهرة المعنيّة. أما بينَ المسلمين، فتشير المقارنات إلى صدماتٍ قديمةٍ في الإسلام. فيرجعُ السنّة إلى الخوارج الذين يعتبِرونهم الراديكاليين الأوائل في الإسلام، بينما يقيم الشيعة مقارنة تعود إلى عهد الخلافة الأمويّة. وتدخل هذه الرؤى الفئوية بتنافسٍ مع صورة الدولة الإسلامية عن نفسها، وهي صورة رفقةٍ تقيّة، شجاعة، لا تعرف الشفقة، وتؤمن بالمساواة. وهذه صورةٌ طوباويةٌ لإسلامٍ فاتحٍ ومُتوَحِّد، كان في بداياته، صورةٌ تُعنى الدولة الإسلامية بترسيخها (ويتضاعف مفعولُها كلما قلّت الثقافة الإسلامية لدى الجمهور الذي يتلقّاها).

زمن المجهول
إنها من علامات الزمن، تتجاوز الشرق الأوسط. نحن نأتي من عالم محدَّدٍ ومفهومٍ نسبيّاً، ونجد أنفسنا في فترة اضطراب فوضويّة، وإعادةِ اختراع. فنستخدم مقارنات ومراجع تاريخيةٍ مغلوطة، لخوفنا من المجهول، وحاجتنا أن نضع كلاماً على ما يَحدث. فاليوم، إنها نهايةُ سايكس بيكو. وفي اليوم التالي، ها هي الحرب الباردة تتكرّر. من جهتهم، يُفضّل المسؤولون الإيرانيّون قراءةَ الأحداث الجارية من زاوية فترة الثمانينيات، حين كانوا في حرب بطوليَّة وصادمة ضدَّ عراق صدام حسين ومموّليه.

يشكّل تنظيم الدولة الإسلامية إحدى القوى التي تمزِّق الشرق الأوسط، إلا أنه يثير ردود أفعال متفاوتة، أقلُّها قلقٌ عميقٌ في المنطقة برمَّتها، وصولاً إلى "تحالف دولي" لـ 60 دولة تعلن أنها ستنتصر على الإرهاب. كما أن جرائمه أكثر انتشاراً من جرائم أخرى، لأنَّ مرتكبيها يقومون بدعايةٍ فعّالةٍ لها. يثير بعضُها ببساطةٍ القرف، كارتِهان الأيزيديات لاستعبادِهنّ. وليس فتوةُ الحركة وحدهم من يغتصب، ويُمثِّل، ويقتُل من دون إنذار، ولا حتى من يذبحُ ويحرق. في الوقت نفسِه، لم يُثِرْ استعمال الأسلحة الكيميائيّة على نطاقٍ واسعٍ في ضواحي الشام في أغسطس/آب 2013، وكانت تلك أبشع الفظائع على صعيد المنطقة، سوى ردّة فعلٍ مُحكَمةٍ وغامضة وفنّيّة، أدّت إلى الجُهد الجاري بذله، لتفكيك ترسانة الأسلحة الكيميائية الموجودة لدى بشار الأسد.

من الناحية العسكرية، كانت طموحاتُ التنظيم التوسعيّة سهلةَ المواجهة، بضرباتٍ جويةٍ ومناوشات تبيَّن أنها كانت كافيةً، لكبح جماحه باتجاه أربيل في كردستان العراق، ولدفعه عن سدّ الموصل، وفي مطار بغداد، وفي مدينة كوباني الكردية السورية (عين العرب)، وفي سنجار. ويبدو على الأرجح أن هذا التنظيم ينتمي إلى فئة من الفاعلين، تتجاوز أفعالُهم قدراتِهم العمليّة. لا يعني ذلك أن التنظيم سيتبخَّر في الهواء، فهو قادرٌ تماماً على الاستمرار، إلا أنَّ سلطة الإرهاب التي يحكم بها سيتمُّ مستقبلاً تجاوزُها، في إطار أزماتٍ إقليميّةٍ مقبلةٍ، ستتزايد تداخلاً.

في منطقةٍ هي عُرضة لتحوُّلات كاملة، لطالما تزايد أو تناقص تأثير الفاعلين الكثر فيها، وبسرعة. حتى فترة قريبة، بدت السلطة الناعمة في أنقرة قوة لا يمكن ردُّها عشيَّةَ الانتفاضات العربية في المنطقة عام 2011. كما رُفِعَت الدوحة إلى السماء قبل أن يستلمَ الإسلاميون الحكمَ في مصر. وكانت الإمارات قد اعتمدت لفترةٍ سياسةً خارجيّةً حذرةً، باتت تتوقَّع أن يتمَّ المسُّ بقدراتها العسكرية في ليبيا والعراق، وهي تقوم حالياً بهجوم عامّ على الإخوان المسلمين، خصوصاً في مصر.

وجدت المملكة العربية السعودية نفسَها في دورٍ قيادي لا تُحسدُ عليه، في ضوءِ تفكُّك القوى العربية التقليديّة، كالعراق وسورية ومصر، وتعرُّضِها لصراعات داخلية. أما إيران، اللاعبُ الفعال الصاعدُ نجمُه (بفضل أخطاء الآخرين معظمَ الوقت)، فتبدو مُقتنعةً بقدرتها على إجبار جيرانها على قبول سيطرتها. وتتأرجح بين التسامح مع أشكالِ العنف الأكثر مجّانيّة التي يرتكبها حلفاؤها، ومحاولة إقناع نفسها وإقناع الآخرين بأنها قوَّةٌ قادرةٌ على ضمانِ الاستقرار والعيش المشترك في المنطقة.

طموح المليشيات

ويبدو أن طموحاً مشابهاً يدفعُ فاعلين غير حكوميين. أوّلاً الفصيل الكردي السوري، حزب الاتحاد الديمقراطي، وقد أعلن عام 2013 إقامةَ دولةٍ كرديةٍ في سورية تحتَ اسم روجافا، سرعانَ ما تحوَّلت إلى ذكرى بعيدة. في اليمن، الحوثيّون، وهم فريقٌ مسلّحٌ يعود أعضاؤه إلى الأقليّة الزّيديّة الموجودة بأغلبيّتها في الشمال، وقد استحوذوا على العاصمة صنعاء، وبسطوا سيطرتهم على البلاد، لكنهم يفتقدون للتجربة السياسيّة والدعم الكافي، وخصوصاً للموارد اللازمة لإدارة البلاد فعليّاً. في مصر، تصرَّف الإخوان المسلمون مدة 12 شهراً وكأنّهم يملكون البلاد، وها هم الآن في المنفى، أو في السجنِ أو في العمل السرّي. أما في لبنان، فإنّ حزب الله، وهو فريقٌ شيعيٌّ مسلَّح ذو كفاءة عالية، يتصرَّفُ، تارةً، على أنه قوّةٌ إقليميَّة، وطوراً على أنه قوّة طائفيّة بحتة، وغير ملمّ بالتوتُّر المتزايد لتوسّع حراكه الإقليمي، بينما تضيقُ قاعدةُ دعمه الشعبية (مثلاً، حين مدَّ عام 2014 السجادَ الأحمر لرئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، والذي كان حكمُه كارثيّاً، وتمَّ تأويلُ هذا الاستقبال على أنه عرضٌ لتضامنٍ شيعيٍّ غير ميمون).

لعبة مكشوفة للأكراد وإيران
غالباً ما يلجأ أعداء تنظيم الدولة الإسلامية إلى استراتيجياتٍ غير مجديةٍ، لإخفاء مصالحهم الصغيرة. ففي الوقتِ الذي كانت فيه الفصائل الكرديَّة تستغيث، إذ كانت أربيل على وشك السقوط في يد داعش، أرسلت تلك الفصائل عينُها بعض قوّاتها للاستيلاء، ومن دون حرج، على كركوك، المدينة الغنيَّة بالبترول والمختلطة عرقيّاً. وتستمرُّ إيران في تمويل المليشيات الشيعيّة العراقيّة التي كانت تقومُ بما يتوجَّب تسميتُه التطهير العرقي للسنّة. وقد تآكل ما تبقّى من الدولة الوطنية العراقيّة، والتي من المفترض أن تمدَّ يدها لمواطنيها السنّة. وغالباً ما يظهر قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في الصور بصحبة أمراء الحرب الذين ينظّمون الجرائم الطائفية، كما أن الطيران الإيراني يستهدف مناطق تتعرّض للتطهير العرقي. يتمُّ هذا كله باسم محاربة "تنظيم الدولة الإسلامية"، وبمباركة واشنطن. وقصف النظام السوريّ المدنيّين، حيث يطارد الأميركيّون المتطرّفين، طامساً خطوط التماس بينه وبين واشنطن. بذلك، يعيد النظام السوري عملياً تعريف "الحرب ضد الإرهاب" على أنها مشروطةٌ بامتدادٍ لقمعه.

غضت تركيا النظر عن عبور مئات المقاتلين الأجانب الذين كانوا يعبرون حدودها للمرور إلى سورية، ووظَّفت الهجوم الذي قام به هذا التنظيم على مدينة كوباني الحدودية، للضغط، من جهةٍ، على الأكراد المتمرّدين على أرضها منذ عقود، ومن جهة أخرى، على باراك أوباما، من أجلِ العودة سياسياً إلى النقطة صفر، والتي تبدأ بإقصاء بشار الأسد. وافقت بعض بلدان الخليج على هذا الهدف، إلا أنها شاركت في التحالف لغايةٍ في نفس يعقوب، هي الدفع بعجلة مشروعٍ داخلي، على خلاف تركيا التي بقيت متحفِّظة. وأبدت حكومات غربيةٌ كثيرة، تشجيعاً منها على مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، استعدادها للتعامل مع شركاء موجودين أو محتملين، وإن شاركها هؤلاء هدفهم بشكلٍ سطحيّ فقط.

بالتالي، أثار تنظيم الدولة الإسلامية ردةَ فعلٍ تحتوي على المكوّنات الأكثر تمكيناً له: منها التدخل العسكري العابر للآفاق، ومنها السّباق الإقليمي على الأسلحة، لا سيما أنّ عدة دولٍ بدأت تتهافت على تقديم المال والأسلحة لوسطاء مرتَجَلين (وتساهم مخطَّطات هؤلاء التقسيميّة والطائفيّة بتقويض سلطة المؤسسات الحكوميَّة المفكَّكة، وتزيد من حدة الانقسامات الاجتماعيّة)، ومنها القمعُ المتزايدُ للحرّيّات المدنية، في وقتٍ تزداد فيه سيطرة سلطات تجد مرجعيّاتها في الماضي. مع أعداء كهؤلاء، لا يحتاج تنظيم الدولة الإسلاميَّة لأصدقاء.
عن الفرنسية والإنكليزية، ترجمة هناء جابر

avata
بيتر هارلينغ وساره بيرك

خبير ومستشار في "مجموعة الأزمات الدولية" ومراسلة صحيفة إيكونوميست في الشرق الأوسط