مخاطر غياب "مرجعية سياسية سنية"

27 مارس 2015
+ الخط -
ثمة تيار سياسي وفكري عربي، اليوم، يسعى، ما وسعه الجهد، أن يثبط، أو حتى أن يسفه، أي حديث عن استهداف "الإسلام السني" وتياراته السياسية الحركية، تارة برمي أصحاب هذا الرأي بالطائفية، وأخرى بتقمص مزاعم المظلومية، وثالثة باتهامهم بالمبالغة، والعيش في أوهام، وعدم استيعاب ديناميكيات السياسات الإقليمية والدولية.
غير أن حملة الاتهام والتسخيف التي يشنها ذلك التيار على موضوعة استهداف "الإسلام السني"، لا تعدو، هي ذاتها، أن تكون آلية مقصودة ومدروسة، لكبت وقمع أي نقاش حول هذا الموضوع وأبعاده ودوافعه. فمنطق تيار التسخيف قائم على التشكيك في مصداقية وأكاديمية وجدية كل من يجادل بأن ثمة استهدافاً مقصوداً "للإسلام السني"، ومن ثمّ وأد الأمر في مهده، إن استطاعوا.
وليس سرّاً أن أبرز رموز تيار التسفيه والتسخيف لأصحاب رأي الاستهداف، هم من أنصار إيران ومشروعها التوسعي في المنطقة العربية اليوم. والحديث، هنا، عن يساريين وبعثيين وقوميين عرب، وضعوا كل بيضهم في سلة إيران وأذرعها الإقليمية، مثل حزب الله اللبناني، ورضوا أن يكونوا أبواقاً للعدوانية الإيرانية في المنطقة، كما في سورية والعراق واليمن ولبنان. ومن المفارقة أن كثيرين من هؤلاء حملوا زاعمين، وما زالوا، على الإخوان المسلمين، مثلاً، أنهم جماعة ثيوقراطية ظلامية، تريد أن ترتد بالوضع العربي إلى القرون الوسطى، في حين تطبق أفواههم عن الحديث عن النظام الثيوقراطي، ربما الوحيد في العالم: إيران.
ففي إيران، يحكم المرشد الأعلى ويسود باسم النيابة عن "الإمام الغائب". ومع ذلك، لا تكاد ترى أثر تذمر على هؤلاء، وهم يرون المحاولات الإيرانية المحمومة لتوسيع نطاق "ولاية الفقيه" لتشمل دولاً، مثل سورية واليمن. أما لبنان والعراق، فإنهما، بطريقة أو أخرى، قد انضويا، إلى حد كبير، في منظومة "ولاية الفقيه"، إلى حد دفع علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى القول، ودونما مواربة أو خجل، إن "إيران، اليوم، أصبحت إمبراطورية، كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حاليّاً". طبعاً لا يخفى، هنا، أن يونسي يحيل إلى الإمبراطورية الساسانية الفارسية التي أسقطتها جيوش الفتح الإسلامي، زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولا يقف يونسي عند هذا الحد، بل تراه يعلن بغرور: "كل منطقة شرق الأوسط إيرانية.. وسندافع عن كل شعوب المنطقة، لأننا نعتبرهم جزءاً من إيران، وسنقف في وجه التطرف الإسلامي والتكفير والإلحاد والعثمانيين الجدد والوهابيين والغرب والصهيونية".
وليست تصريحات يونسي هذه معزولة في سياق "سكرات النصر" الإيراني الموهوم. فقد تحدث قبله مسؤولون آخرون عن وقوع عواصم عربية أربع تحت النفوذ الإيراني، فضلاً عن أن الأخبار تتواتر عن وجود أكثر من ثلاثين ألف جندي إيراني يحاربون في العراق، ويتحركون لإخضاع المناطق السنية، وجلبها تحت نفوذ وكلاء إيران من العراقيين. دع عنك، طبعاً، وضع نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، تحت جناحها، وتهديد السعودية عبر حدودها الجنوبية مع اليمن، والشمالية مع العراق.
الأخطر في مشروع التمدد الإيراني في المنطقة، ومحاولات بسط الهيمنة عليها، تكمن فيما يبدو أنه ضوء أخضر أميركي، ضمني، يتيح لإيران إعادة ترسيم مناطق النفوذ فيما يعرف بـ"الشرق الأوسط". فثمة قراءة أميركية، أن مصادر التهديد، اليوم، لمصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي، نابعة من "الإسلام السني"، بغض النظر كان "معتدلاً" أم "متطرفاً"، حسب التوصيفات الأميركية. واستناداً إلى هذه القراءة، فإن إيران، كدولة متماسكة وقوية وصاحبة نفوذ وسيطرة على الشيعة العرب وحلفائها في فضاء الإقليم، تغدو حليف الضرورة، بدلاً من المنظومة السنية العربية، "والتركية" استلحاقاً، الضعيفة، والمفككة، والمنقسمة على ذاتها، بل والمحاربة بعضها بعضاً.
 
فالمنطق الأميركي قائم على أن عدو عدوي صديقي، وهو ما نراه واقعاً، الآن، في التواطؤ الأميركي مع إيران في العراق، وسلبيتها المريبة حيال توسعها عبر الحوثيين في اليمن، وتعطيلها، أي الولايات المتحدة، لأي إجراء حاسم لإسقاط نظام الأسد في سورية. ولعل في "زلة لسان" وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن ضرورة التفاوض مع الأسد في النهاية، ما يغني عن كثير تدليل، وهو ما يعزز القلق القائل، إن المفاوضات الأميركية-الإيرانية تتجاوز الملف النووي، إلى مستوى ترتيبات وصفقات إقليمية كبرى. ومن المهم، في هذا السياق، أن نُذَكِّرَ بحذف إيران وحزب الله من تقرير "تقييم الاستخبارات الأميركية لمصادر التهديد في العالم" للمصالح الأميركية لهذا العام، والذي قدمه مسؤول الاستخبارات الوطنية، جيمس كلابر، إلى الكونغرس، أواخر الشهر الماضي. فلأول مرة، منذ سنوات طويلة، يغيب الاثنان (إيران وحزب الله) من قائمة الداعمين للإرهاب الأميركية، وهذا، من دون شك، مرتبط بالمفاوضات مع إيران وحربهما ضد "داعش".
تدرك الدول العربية "السنية" هذا كله، وهي متخوفة، فعلاً، من أن يبيعها النخاس الأميركي إلى "الشَّرِهِ" الإيراني، والتصريحات السعودية المتكررة المحذرة من مثل هذه الصفقة أكثر من أن تحصى. هنا تبرز ثالثة الأثافي. فالأصل، والحال هذه، أن يكون ثمة وحدة موقف سني، يحول دون أن تسقط المنطقة لقمة سائغة في البطن الإيراني، غير أن الموقف العربي، في مجمله، للأسف، أضعف من أن يجترح مثل ذلك الموقف، على الأقل، حتى الآن. فمحور الدول التي سعّرت النار في الجسد العربي، ردّاً على الثورات والانتفاضات العربية، هي من أنهكت الجسد العربي، وألغت مناعته. فذلك المحور جعل من "الإسلام السياسي السني" عدوه الأساس، فكانت النتيجة أن استنزف الكل "السني" لصالح المشاريع الأميركية والإسرائيلية والإيرانية، وهو ما نرى حصاده المرَّ اليوم.
أبعد من ذلك، لم يبادر ذلك المحور العربي، جاداً، إلى محاولة لملمة الوضع العربي "السني" في أفق التصدي لتلك المشاريع الأجنبية المدمرة، بل إنه يسعى إلى مواءمة مواقفه، وتنسيقها مع إسرائيل، وكأن أطماع الأخيرة أضيق مدى، وأقل شراسة وخطراً من إيران! لا أريد هنا أن أقلل من المؤشرات القادمة من الرياض عن إمكانية قيادتها مبادرة تصالحية "سنية-سنية" تشمل تركيا وقطر، ودولاً عربية أخرى، كمصر والإمارات، لتوحيد الموقف السني، العربي-التركي، غير أننا لم نرَ ثماراً لذلك الجهد بعد، إن وجد أصلاً.
باختصار، إن غياب مرجعية سياسية سنية عربية ذات مصداقية أحدث خرقاً خطيراً لا ينبغي أن يستهان به في منظومة الأمن القومي العربي الجمعية. فنقل المعركة إلى داخل الدار يكاد يسقط السقف على رأس الجميع، وأي مرجعية سياسية سنية عربية لن تكون ذات مصداقية، من دون إدماج تركيا وقطر، فضلاً عن الحركات الإسلامية السياسية، وتحديداً "الإخوان المسلمون"، فيها. فمستقبل المنطقة، إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، يراوح بين خيارين، أحلاهما مرٌّ: فإما الخضوع لنفوذ وهيمنة أجنبية واسعة، أميركية كانت أم إسرائيلية أم إيرانية، أو تعزيز موقف تيارات الفوضى والرفض والخواء، كـ"داعش". فـ"الإسلام السني" لا يمكن أن يبقى من دون صوت معبر عنه، ومنافح عن كرامته، وإذا استمر هذا الفراغ من دون تعبئة واعية له، حينها لا تسألوا لماذا يتبنى كثيرون خيار "شمشون".