المدارس والمعاهد الدينية في باكستان.. التأثير والتمويل والاتهام بالتطرف

المدارس والمعاهد الدينية في باكستان.. التأثير والتمويل والاتهام بالتطرف

14 ديسمبر 2015

تلاميذ مدرسة إسلامية في إسلام أباد (5 مايو/ 2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
تحاول باكستان جهدها، من جديد، لكي تُحكم مراقبتها المعاهد الدينية المستقلة (المدارس)، الكثيرة العدد. ومن الملحوظ أن هذا العزم على ضبط هذه المدارس لم يكن سابقاً بهذه الجدّية، فطبقاً لنتائج تقرير تقدمت به الحكومة إلى البرلمان، في بداية السنة الجارية 2015، هناك 23 معهدا دينيا تتلقى دعماً ماليا من الخارج. ويتزايد عدد المعاهد الدينية التي تتلقى تمويلاً خارجياً غير مُصرّح به، من أجل نشر أفكار متعصبة في أوساط الشباب، خصوصاً في المناطق النائية والفقيرة من باكستان. وتتنوع مصادر هذا التمويل من إيران والعراق، ومن شخصيات نافذة في الخليج، غير أن إسلام أباد لم تستطع رصد أي أثر لتمويلٍ آتٍ من حكومة خارجية، فيما تبقى طهران المتهّم الأكبر أكثر من السابق.
وطبقاً لوزارة الشؤون الدينية الباكستانية، يتخرّج كل عام نحو مئتي ألف طالب شاب من أكثر من 26000 مدرسة دينية. ويعاني جلهم من البطالة، أو يشتغلون، في أحسن الأحوال، أئمة في بعض المساجد، براتب يقل عن مائة دولار. وتثبت غالبية الدراسات أن مثل هؤلاء الشباب اليائسين يكونون لقمة سائغة في أيدي مروّجي الأفكار المتطرفة، من الطائفتين السنية والشيعية، والتي تقدر بحوالي 9 حتى 15% من الساكنة الباكستانية.
ومنذ الغزو السوفييتي أفغانستان، وباكستان تتحمل فاتورة الصداقة والعداوة معاً، فقد خسرت ما لا يقل عن بليوني دولار، وأرواحا لا تعد ولا تحصى. والآن، تُعدّ باكستان، في مرحلتها الأخيرة، فيما تعرف بالعمليات العسكرية "ضرب عضب" على قبائل موالية لحركة طالبان. وعلى الرغم من نشر مئتي ألف فرقة عسكرية على الحدود مع أفغانستان، إلا أن باكستان متهمة بدعم المليشيا المتطرفة. ومنذ ضربات "11سبتمبر" الإرهابية في 2001، فقدت باكستان أكثر من 80 ألف فرد.
وقد حاولت دول الخليج العربية توحيد جهودها من أجل إحباط تصدير نموذج الخميني "الثوري" إلى العراق وباكستان، وفي مناطق أخرى في الجوار. وفي حين دخلت العراق في حرب ضروس مع إيران، أصبحت باكستان تواجه الاتحاد السوفييتي.

مدارس تتزايد
تضاعفت أعداد المدارس الدينية في باكستان بدعم وتشجيع من الولايات المتحدة الأميركية، ومن دول عربية غنية، بهدف إعداد عسكريين مشاة (مجاهدون) لمحاربة الثوار، ولم يخضع التزايد في أعداد هذه المدارس لمراقبةٍ مشددة، ما سمح لأفغان وباكستانيين عديدين، ولشباب مسلمين من دول أخرى بالانضمام إلى المجموعات الأفغانية نفسها، وقد أصبح بعض هؤلاء، فيما بعد، معروفين قادة داخل تنظيم القاعدة.

وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك إشراف مباشر من الحكومة على مناهج المعاهد الدينية وتمويلاتها، فإن رئيسة الحكومة حينها، بي نظير بوتو، أوقفت التسجيل الرسمي سنة 1996. وقد زاد هذا القرار المعاهد غير الرسمية وغير المسجلة على أسس طائفية في جميع أنحاء باكستان، ولم يستفد كثير منها من التسجيل في الفترة التي قدم فيها الحاكم العسكري، برويز مشرف، بعض التنازلات، حتى 30 سبتمبر/أيلول 2005.
ويعَرّف القانون الباكستاني المعاهد الدينية (المدارس) مؤسسات تعليمية تؤوي الطلبة وتوفر لهم طعامهم، في حين تعَرف الكتاتيب (المدارس الدينية للصغار) وحدات تُدرس التلاميذ الدّين والقرآن الكريم في المساجد.
ومنذ "11 سبتمبر" 2001، لم يكن هناك إلا محاولتان من أجل ضمّ المعاهد الدينية المستقلة إلى الجهاز الرسمي. وقد حاول الجنرال مُشرّف تعديل قانون تسجيل الجمعيات، بحيث يُطلب من جمعيات البلاد التسجيل مع الحكومة، وتقديم البيانات المالية، والمراجعة الحسابية مع لائحة بأسماء الممولين. لكن، للأسف، تراجع الديكتاتور العسكري عن نيته الإصلاحية، بسبب التحديات السياسية التي كانت تواجهه من المعارضة. وتم الاتفاق مع اتحاد تنظيمات المعاهد الدينية الباكستانية في مذكرة تفاهم على ضم مواد العلوم والفنون، بشكل إلزامي في شهادة الثانوية العامة والمستويات المتوسطة. وبالإضافة إلى ذلك، اعترفت وزارة التعليم بخمسة مجالس من التعليم الديني مع اثنين من المرشحين في الحكومة، بغرض الرقابة.
وكان على الحكومة تشكيل سلطة تنظيمية، طبقا للتشريعات البرلمانية في غضون شهر، بعد التوقيع على مذكرة التفاهم تلك، لكن البرلمان لم يستطع التحضير لمشروع القانون هذا حتى يتسنى لإدارات المعاهد الإسلامية مراجعته، وبالتالي، ضاعت هذه الفرصة الذهبية.
وقد أعادت حادثة الهجوم الذي وقع في مدرسة بشاور، وخلّف 150 قتيلا جُلهم من الأطفال، النقاش حول تلك المذكرة غير المكتملة، والتي كانت من المفروض أن تقتلع التشدد والتطرف من جذوره. وقد أشارت هويات جل الإرهابيين الذين قضوا في الهجوم على انتمائهم إلى المعاهد الدينية (المدارس)، التي اعتُبرت أماكن لتصدير التطرف، حيث يبقى التفكير الديني محدوداً ولصيقاً بمذهب أو مدرسة فقهية معينة.
وعلى الرغم من الإدانات الكثيرة، لا تنتهي المطالب والنداءات لدعم المعاهد الدينية غير الرسمية، فهناك، مثلا، مولانا عبد العزيز، مؤسس المسجد الأحمر في إسلام أباد، حيث شنّ الجيش عمليات عسكرية دموية على المسجد، بعد أيام من حصاره سنة 2007، والذي يناهض بقوة من أجل إقامة قوانين الشريعة في البلاد، كما أنه ما زال يدعو إلى تبنّي نموذج الإسلام المتطرف.
وفي المقابل، هناك سياسيون من أمثال مولانا فضل الرحمن، والذين هددوا، أخيراً، بالخروج في مظاهرات كبيرة، إن لم تُتخذ إجراءات ضد المعاهد الدينية التي تطلب تمويلات من الخارج. وعلى الرغم من خلافات مذهبية حادة، فإن أئمة كثيرين يحاولون الاتحاد، عندما تُهدد المعاهد الدينية، بسبب عملها بشكل غير قانوني، أو لأنها تزرع بذور التطرف في الشباب، أو لأن تمويلاتها مشكوك في مصادرها.

مراجعات وبرامج
لا يمكن اتهـام كل المعاهد الدينية بإنتاج المتطرّفين، فإدارة العلوم الإسلامية (معهد العلوم الإنسانية) تُعدُّ مِثالاً بارزاً على معهد ديني، يمزج بين التعليمين، الديني والحديث، ويعتمد ثلاثةَ من أفضل البرامج في امتحانات الصفين، العاشر والثاني عشر. كما أنه، في الوقت نفسه، ينافس مدارس النخبة في إسلام أباد، إلى جانب أنه حصل على ميداليتين ذهبيتين في برامج الماجستير لجامعات القطاع العـام.
ويقول مولانا فيض الرحمن عُصماني، مؤسس ورئيس المعهد إن "17% من الطلبة فقط يستطيعون تحمُّلَ دفعِ رسومنا المتواضعة. ومن واجبنا أن نجمع المال اللازم لدفع رواتب المعلمين وتغطية المصاريف اليومية". كما أنه يفسّر، مشيراً إلى الخطة الرئيسية لحرم الجامعة، قائلا: "لسنا مُسجلين مع الحكومة فقط، فقد حافظنا على إنجاز تقارير المراجعة، منذ إنشائها في عام 1984". ويعتقد كثيرون أن على الحكومة أن تتدخل أكثر في تحديد المناهج الدراسية لهذه المعاهد، ونوعية المعلمين ومعايير الفحص، بإدماجهم في التيار الرسمي. لكنّ المشكلة، هنا، تتجلى في عدم الكفاءة في الحكم وعدم وجود الإرادة السياسية. كما أن مولانا عُصماني لا يتفق مع هذا الأمر، ويشرح: "انظروا إلى الطريقة التي تنهجها الدولة في إدارة المؤسسات التعليمية الخاصة. ليست هنالك رقابة على جودة الخدمات. الكل ينظر إلى المدارس الدينية نظرة نمطية، بدون التمحيص في الأمر". لكنه، في الوقت نفسه، يتفق مع الخبراء الذين يرومون إدماج المعاهد الدينية في التيار الرسمي، شريطة أن يتم ذلك عن طريق هيئة تنظيمية مختصة.
منذ التاسع من سبتمبر/أيلول 2015، اختارت معاهد دينية كثيرة في باكستان إعادة النظر في ثقافتها الأكاديمية؛ عن طريق إدخال العلوم والرياضيات والإعلاميات واللغة الإنجليزية إلى مناهجها الدراسية. ومع ذلك، كان هناك اهتمام سطحي بتغيير طريقة نظرها إلى الطوائف أو الديانات الأخرى. ومع ظهور "الدولة الإسلامية في العراق والشّام"، فإن المعاهد الدينية المتشددة تستعد للعب دور مركزي في الحرب الطائفية بين إيران وخصومها من السنة.
والآن، وبعد قضائه عامين في السلطة، على رئيس الوزراء الباكستاني، نواز شريف، أن يتخذ خطوات قوية لوقف ارتفاع التعصب الديني. ولذلك، يعد قرار إحياء "المدرسة" الباكستانية غير حكيم بالمرة، فقد غيّر دور الدولة من مُنظِّم إلى منافس، كما أنه يعد خطوة هائلة إلى الخلف.


العرب والخليج
وإذا كانت باكستان وأصدقاؤها في منطقة الخليج، وهم من دعموا إنشاء المعاهد الدينية في 1980، يحسُّون بأنهم مهددون من تفسير هذه المعاهد المتشدد للإسلام؛ بالإضافة إلى اعتبارات أخرى، فمن الضروري تنظيم هذه المعاهد في باكستان وأفغانستان وأماكن أخرى بنوع من الحذر. وإذا كانت هذه المعاهد الدينية جزءاً من المشكلة، فمن الممكن أن تكون جزءاً كبيراً من الحل، إذا تمت معالجة الأمر بحكمة. وفي حال لم يتم ذلك، سيصعب القضاء على الكيانات المتطرفة مثل "داعش".
• مع اقتراب انتهاء عملية 'ضرب عضب' في وزيرستان والمناطق القبلية الأخرى، يجب معالجة قضية المعاهد الدينية غير الرسمية والغامضة جزءاً من استراتيجية كبرى للحد من التطرف. وعلى الدولة أن تمضي في تأكيد سلطتها خارج وزيرستان، للحد من التطرف، شيعياً كان أو سنيّاً، مع دعم محلي أو أجنبي.
• تحتاج إسلام أباد لإعادة إحياء سير العملية مع 'اتحاد تنظيم المعاهد الدينية' الباكستانية التي تعثرت، بعد توقيع مذكرة التفاهم في عام 2010، وينبغي أن يُسمَحَ لخمسة مجالس تنظيمية دينية تعليمية بإعادة إصلاح أنفسها تحت الرقابة الرسمية، فليس لدى الحكومة القدرة، لا على إضفاء الصفة القومية إليهم، ولا على التعامل مع حشود المحتجين الغاضبين، والذين يشوشون على الاقتصاد، تحت وطأة ديون صندوق النقد الدولي.
• لا تتطلب هذه التحديات فقط العلاجات التنفيذية أو الدستورية، فبالإضافة إلى تسجيل المساجد والمعاهد الدينية وإدماجها، من الضروري، أيضاً، تدريب المدرسين الدينيين والأئمة على نطاق واسع وبصرامة. كما أن المساعدة المالية من دول الخليج لن تمزج نظريات المؤامرة في وسط الكوادر الدينية في باكستان.
• تمكّن السياسيون الباكستانيون على مر السنين من العمل على مشكلة عدم الكفاءة وعدم التسامح في السلطة التنفيذية. ثقافة 'الانتهازية' يجب أن تنتهي، حتى يحقق البلد إمكاناته الحقيقية التي كانت تعوقها حرب متعددة الجوانب، وتدفق خمسة ملايين لاجئ الذين لا يزال هناك مليونان منهم على الأقل. ومع تحرك وسائل الإعلام الاجتماعية والاتجاهات السياسية الناشئة، هناك بصيص من الأمل للمسؤولية والمساءلة في باكستان.
• إذا كان الأصدقاء السّنة العرب لإسلام أباد يتصورون أنهم قادرون على إنقاذ 200 مليون من الضعف المالي، وحل مشكلة باكستان المجزأة اجتماعياً، فعليهم أن يعيدوا النظر في الأمر، فبذور التطرف والتشدد التي زرعت في سنة 1980 لم تمُت بعد. ويمكن لباكستان أن تتعامل بشكل أفضل مع المعاهد الدينية، بدل مقاومتها، لتكون ملاذاً للتطرف والطائفية، إذا ما كانت الدول الصديقة، مثل قطر وتركيا والمملكة العربية السعودية، تستخدم نفوذها على العناصر الدينية المحافظة، من خلال جمعهم على طاولة المفاوضات.
• إن افتتاح مكتب سياسي لحركة طالبان في الدوحة، في محاولة لتشجيع هذه الجماعة على تجنب التشدد، وحتى تصبح السائدة في أفغانستان، ليست سوى النصف الأول من مهمة أكبر. وسيبقى السبب الجذري للمشكلة قائماً ما لم يتم التصدي للمدارس التي تحضن المتطرفين على وجه السّرعة وبطريقة ذكية.
(صحافي باكستاني استقصائي)