دعوة إلى العروبة الجديدة

دعوة إلى العروبة الجديدة

01 ديسمبر 2015
+ الخط -
هل ما زال الحديث عن التضامن العربي، أو التكامل العربي، وحتى لا "نشطح"، ونقول التوحّد العربي، يُعتبر ضرباً من الخيال والإيغال في الأوهام؟ وكذلك، هل ما زال يُرمى، وعلى الفور، كل من يقول بمفهوم العروبة الجديدة بأنه "تركة أثرية"، أو "دَقة قديمة" كما يقول المثل العربي العامي؟
لا نعتقد ذلك، لأن بدائل العروبة، كما هو واضح للجميع، لم تكن سوى هذه المستنقعات من الدم والفوضى والتفكك، بل التفتت والتعفّن في الخارطة العربية الراهنة.. والآتي أعظم، كما يقولون، إذا لم يتدارك العرب، كل العرب، بأنفسهم هذا الواقع غير المسبوق في تاريخهم القديم والحديث.
هكذا، فإن مفهوم العروبة كان وسيظل الهوية الجامعة والمظلّة الواقية لكل العرب، مهما أوغلت بهم وقائع الصراعات والحروب الأهلية الدموية، بل الجائحات الدراماتيكية المخيفة، من داخل ومن خارج على السواء.
والمقصود بـ"العروبة الجديدة" إعادة إحياء مشروع سياسي- ثقافي قومي جديد، يستفيد من كل الدروس المخفقة، أو المتعثرة السابقة التي اضطلعت بها، عملياً، نخب وأحزاب وحركات قومية عربية سابقة معروفة.
لا ترتجل هذه السطور مشروعاً سياسياً عروبياً حداثوياً عتيداً، بل إن جلّ ما يهمنا هو الدعوة إلى الإسهام، ولو نظرياً، (مع غيرنا من الحرصاء بالطبع) في لملمة مختلف العناصر التي من شأنها توحيد الأمة من جديد، وصوْن شخصيتها الحضارية والتاريخية، خصوصاً في هذا الزمن الأدكن الذي تتعرّض فيه أمتنا (من ضمن ما تتعرض له) لجرائم استئصالٍ آخر ما يجمعها من تراث ثقافي وحضاري وديني منفتح، تجسّده هوية العروبة بتاريخيتها المعروفة، وإدخالنا، بالتالي، في متاهة اللاهوية واللاتاريخ. واستطراداً تصوير المنطقة على أنها مؤلفة من أقوام وجماعات مختلفة، لا رابط بينها، ولا هوية دامغة تختزلها، فاستبدلوا، مثلاً، مصطلح "العرب" بمصطلح "الناطقين بالعربية"، وإلصاقه بالعرب المتجذرين في أرضهم، منذ قرون طويلة؛ ولا هدف لهذا الاستبدال سوى تدمير فكرة وجود الأمة العربية في وعي العربي لنفسه وتاريخه ومكوّنه الحضاري، فالعربي، بحسب زعمهم، ليس عربياً بالهوية والتاريخ واللغة والثقافة والعادات والتقاليد، بل إنه مجرد كائن ناطق بالعربية، شبيه بالإندونيسي الناطق بالهولندية أو السنغالي الناطق بالفرنسية، وبأنه، في المحصلة، إذاً، ليس سوى نتاج "استعمار" أمة أخرى تدعى العرب.
و"العروبة الجديدة"، بمعنى آخر، تعني تعزيز الأمن الثقافي العربي، باعتباره أمن وجود وبقاء ومصير لأمةٍ، ينبغي أن تستعصي عليها كل مشاريع التقسيم والتذرير والإلغاء الهويّاتي المرصود لها.

من هنا، علينا أن نضع الأمن الثقافي وتحدّياته في صلب أولوية المقارنة مع ما يجري من نكبات خطيرة، مشبوهة وغير مسبوقة في بلادنا، نشهد خلالها، نحن العرب جميعاً، محاولات الدفع "بهويات فرعية" متطرفة باسم الدين (والدين منها براء بالتأكيد) وعابرة للحدود الجغرافية الراهنة، هدفها شطب العروبة الجامعة، واستبدالها بـ"هويات" هجينة، دموية، متطرّفة، لا هدف لها سوى زرع الفتن، وتمزيق المجتمعات، خدمة لأعداء العرب ومشاريعهم في المنطقة.
وعندما نتحدث عن "العروبة الجديدة"، هنا، فلأنها المخرج الوحيد من الأزمة الهويّاتية التي يتخبّط فيها الوطن العربي، من أقصاه إلى أقصاه، ولأننا لا نجد إطاراً هويّاتياً بديلاً، يستوعب كل المكوّنات العربية المتصارعة على الأرض. و"العروبة الجديدة" التي نصبو إليها، في جوهرها، عروبة ثقافية، منفتحة على العصر والثقافات والأفكار الحديثة على اختلافها، وهي ليست بالتأكيد مسألة انتماء عرقي أو شوفيني، أو ساحة مواجهة مع القوميات الأخرى في العالم. وهي، من هنا، تقبل الآخر من أي عرق أو جنس أو دين أو مذهب كان، في إطار شخصيتها الثقافية الراسخة والعريقة بتعدديتها.
هكذا، فالنخب الثقافية العربية مدعوة إلى تشكيل مختبر فكري متفاعل لاستنباط كل ما من شأنه استعادة الأمة هويتها ذات الاندماج المعقلن، والمدفوع دوماً بوعي حيوي معرفي، وتعميم ذلك على مختلف المؤسسات الثقافية والتربوية والأكاديمية والعلمية والسياسية العربية، بغية إيجاد الشروط اللازمة للتفاعل والتكامل والتنسيق المستقل والانفتاح على المستقبل. ولا غرو ففلسفة العروبة هي حركة بنفسها، تتجاوز حتى مطلقيها ممن أعطوها وجهها الأول، مهما كانوا عظماء وتاريخيين، ذلك أنها هي وليدة الراهن والآتي في استمرار، تماماّ كما هي وليدة الماضي، ذي الطعم الخاص من الانتماء إلى العالم.
وأياً ما كان الأمر، فالدعوة إلى العروبة الجديدة فكرية وثقافية، قبل أن تتمأسس في دعوة سياسية عتيدة، ذلك أن الثقافة الراسخة هي التي تهزم ولا تُهزم، وهي التي تبني ما لا يتهدّم. إنها البداية والنهاية، وهي المناعة الحقيقية للأمة، خاصة عندما تترجم نفسها في تغير واع للذات وتجاوزها.
والآن، أقل ما يقال من كثرة كاثرة من المراقبين العرب الجدّيين إن الحاضر العربي مخيف، ولا يقل عنه خوفاً الحاضر العالمي، ولاسيما بانعكاساته المأساوية على بلداننا العربية والإسلامية، التي تدفع الثمن باهظاً، مثل رمى مصالح الآخرين. نعم، تكسر المسرح العربي، وما تعب اللاعبون.
لكن، بإزاء هذا اللامعقول السياسي، لا بد من أن نفكّر في المستقبل، ولو على أنقاض الحاضر؛ وثمّة من يقول إنه بمجرد العيش في زمن عربي كهذا، يفوق كل ما سبقه من أزمنةٍ خطورةً ويأساً مقيماً، يجعل الحياة، في حدّ ذاتها، شرفاً وامتيازاً، والإنسان يحمل تاريخه معه، شاء أم كره.
ولا يبالغنّ أبداً من يقول إن أعظم التقدم يعقب أعظم التأخر، وأهلاً بالقبض على أعنّة الأمور إذاً، وهي تمرئي نفسها بالعروبة الجديدة، العروبة الحاملة معها مدّاً هويّاتياً مجرّباً، لا يخشى النقد ولا النقض، بل إن نقد خطاب الهوية لا يعني تقويضها، وإنما تعزيزها وتمكينها.

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.