إلى إدوار الخرّاط

إلى إدوار الخرّاط

01 ديسمبر 2015

إدوار الخراط ... سلامات

+ الخط -

 

 

حين تكون ممدداً على سرير المرض، تفكّر وترى إلى العالم بطريقة مختلفة. الوضعية الأفقية تريك الأشياء من منظور جديد، فتتبدّى لك الأصوات والروائح والوجوه مغايرة. 

يخطر لي، فجأةً، أني قرأت شيئاً كهذه الجملة في مكانٍ ما. قد لا أكون قرأته فعلاً، إلا أن الأمور باتت تختلط عليّ. الحقيقة أنها تختلط عليّ منذ فترة، لأسباب ليست دائماً على علاقة بسنّي أو بوهن جسدي. أقول شيئاً، فينتابني الشكّ لحظة، أن أكون قد نقلته عن سواي. أخشى أن يكون ذلك واقعاً حقاً، ويحصل على غفلة مني، ثم أتدارك نفسي، من ذا الذي يعيرك الآن أي انتباه، ولو نسبْتَ إليك الإلياذة وألأوذيسة بأبيهما وأمهما.

لا مانع عندي من الاعتراف أني بتّ، أخيراً، لا أملك أية فكرة في رأسي، أنا الذي/ التي كنت أملأ عشرات الدفاتر والأوراق بمشاريع كتاباتي وأفكاري. لا توجد في رأسي أية فكرة "مفيدة" - كما حين نقول جملة مفيدة – أي مكتملة، وقد يكون معنى غياب الإفادة، هنا، خلوّها من أي نفع.

ما  عدت أجدني نافعاً(ة) لأي أمر، وكلما وقع حدث جلل، وهو ما بات يحدث يومياً، يزداد شعوري بالنقصان واللامنفعة، كأني شيء فائض عن الحاجة، طُفيليّ وغير مرئي.

الجسد حين لا يعود يتحمّل أي عبء. الجسد حين يتحوّل هو نفسه إلى عبء. الهواء حين يصبح سميكاً، لزجاً، كأنه ماء يدخل إلى الرئتين ويثقلهما، وهاتان الخشبتان الثقيلتان الفظيعتان اللتان تدعيان ساقين، واللتان بترتا حركتي تماماً، وألصقتاني في السرير.

لم تزل بعضٌ من ذكرياتي نشطة، لكنّ أكثرها لا أحبّه، ولا أرحّب به، وأقوم أحيانا بطرده. من بين كل قراءاتي وذكرياتي، أفرح دوماً باستذكار رواية فرحة ومحببة جداً إلى قلبي، هي رواية "جاك القدري وسيّده"، للفرنسي دوني ديدرو. جاك الذي يملك فلسفة خاصة، قوامها أن كلّ ما يحدث لنا، خيراً وشراً، مكتوب مسبقاً في لفافة كبيرة، يتم بسط جزء صغير منها في كل مرة، يسافر برفقة سيّده الذي لا نعرف اسمه أبداً، إلى وجهةٍ غامضة. ولتبديد ملل الطريق، يأمر السيّد تابعه جاك أن يروي له قصص حبه، فيمتثل هذا الأخير، إلا أن  حوادث عدة ترويها شخصيات أخرى، تظهر في الرواية وتقاطعه باستمرار، حتى إن ثمة قارئاً يظهر فجأةً، ليطرح عليه الأسئلة، مطالباً بالمزيد من التفاصيل.

ألتقط كتاباً من دستة جلبتها معي، كي تؤنس وحدتي وأرقي، أفتح عشوائياً كمن يتهيّأ لمفاجأة، وأقرأ:  

"لقد خرج دون كيشوت، في يوم من الأيام، من منزله، وبمعيته كخادم له رجل قروي أمّي، من أجل محاربة أعدائه. مائة وخمسون سنة بعد ذلك، سيجعل طوبي شاندي من حديقته تصميماً مكبراً لساحة معركةٍ، حيث استسلم لذكريات شبابه، عندما كان محارباً، يساعده بأمانة خادمه تريم. كان هذا الخادم أعرج، تماماً كجاك الذي بعد عشر سنوات، رفّه عن سيده في أثناء رحلته. لقد كان جاك ثرثاراً وعنيداً جداً، كما سيكون بعد مائة وخمسين سنة الضابط المرافق في جيش امبراطورية النمسا - الميجور جوزيف شفايك الذي أمتع وأرعب سيده الملازم الأول لوكاتش. بعد ثلاثين سنة، وفي انتظار غودو، يجد فلاديمير وخادمه نفسيهما وحيدين في قلب المشهد الفارغ للعالم. وبهذا، تكون الرحلة قد انتهت".

أبتسم لنفسي. أفكر بجاك، فأقع على ميلان كونديرا يحكي عنه. أحببت كونديرا في الماضي كثيراً. بشكل أقلّ، حين صار فرنسياً. ليتني جلبت جاك معي، فرأسي كروايته، يبدأ في مكان ليروح في كل الاتجاهات.

يقاطعني ما يخرج إليّ في غرفةٍ يهيمن عليها البياض. إنها الممرّضة. لا أريد أن أرى. لا أريد أن أسمع. أغمض عينيّ. سأبقى مع جاك.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"