في سيرة التواضع العُماني

26 نوفمبر 2015
+ الخط -

إنه التواضع الأنيق، الأنوف، المعتد بقدراته والطالع من قلب التاريخ الحافل، ليتبدى بوضوح وثقة وطمأنينة وشجن، في رحابة الجغرافيا، بحاراً وجبالاً ورمالاً.. وإنساناً. 

وإذا كانت الحكمة الصينية القديمة تقول إن المبالغة في التواضع غرور مضاعف، فإن تواضع العُمانيين لا يبدو مبالغاً فيه، ليصل بهم وبنا إلى تلك النتيجة، ذلك أنه، كما بدا لي، تواضع موروث ومتوارث، عبر جينات الشخصية التي تتراكم فيها عراقة الشرق كله، وتتكسر فيها نصال الطبيعة على نصال السماء، في اختبار أبدي.

 أقضي هذه الأيام وقتاً فائضاً بالمتعة والدهشة والحفاوة والشعر والعطر في مسقط، للمشاركة في مهرجان أثير للشعر العربي في دورته الأولى، تنظمه صحيفة أثير الإلكترونية، تزامناً مع احتفالات سلطنة عمان بأعيادها الوطنية، فأراجع نفسي في علاقاتي مع هذا الوطن الساحر، بكل ما يمكن أن يفيض من مفردة السحر من معانٍ وصور وتجليات ما بين العقل والقلب. 

قدمت، ومجموعة من الشعراء والنقاد العرب المدعوين إلى المشاركة في هذا المهرجان الأول من نوعه في مسقط، إلى عُمان، وقد أضفت هذه الأعياد على الشوارع والمدارس والتلفزيون والإذاعة والصحف والبشر الكثير من سمات الفرح الهادئ والأنيق، وبما يليق بالشخصية العُمانية المتواضعة، كما يبدو. لا بهرجة زائدة عن الحد، ولا صخب يفسد الهدوء الذي تنعم به المدينة المزدحمة، ولا افتعال كالذي اعتدنا عليه في مثل هذه المناسبات غالباً. على الأقل، لم أرصد ذلك، وأنا أعيش بياض مسقط في البيوت والقلوب والسواحل والجبال.

ومسقط كلها قصيدة، تناوش حداثتها على متون جبالها التي تلتف حول منعطفاتها بحنان ملحوظ، متكئة على عراقتها في ظلال الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيرته الحاضرة بطمأنينةٍ، وبلا قلق من تناقض متوقع في المهرجان وخارجه.

سارت بي السيارة في شارع طويل جداً، ساعة كاملة، متوجهة إلى جامعة السلطان قابوس، للالتقاء ببعض طلبتها من أعضاء جمعية الخليل فيها، محاطةً بانحناءات الجبال، بما يوحي بالجهد الخرافي الذي بذل في شق ذلك الطريق المريح بينها، فعدت إلى سيرة التواضع العماني المتبدي في خفوت نبرات الصوت في حديث العمانيين عن كل شيء.. عن الشعر وعن الجبل وعن البحر وعن الموسيقى وعن التاريخ وعن الكتب، وعمّا في عُمان كلها، بلا تعال ولا ادعاء، ولا إشارة إلى الأنا. 

ولأنها زياتي الأولى إلى هذه البلاد المعتدة بذاتها من دون انكفاء، والمكتفية بتجربتها بلا تقوقع، لاحظت أن شخصية الإنسان العماني، المتواضعة بثقة عالية، هي أهم ما يميز عُمان في سياقها الإقليمي. ولعلي لا أبالغ إن تحدثت عن هذا التواضع الآسر سمة مميزة لأغلب العمانيين، على الرغم من أنني لم أقض في عُمان إلا أياماً قليلة، لكنها كما أزعم كافية جداً، ليس لأن معرفتي بهم تتجاوز، في عمقها، هذه الرحلة السريعة، إلى ما قبل ذلك من علاقاتٍ وصداقاتٍ، ربطتني بكثيرين منهم منذ زمن طويل وحسب، ولكن، أيضاً، لأن هناك من السمات الإنسانية ما لا تخطئه العين، ولا يضيّعه القلب منذ الوهلة الأولى، والتواضع الحقيقي المبني على ثقةٍ عاليةٍ بالنفس، وثقافةٍ رفيعةٍ، تتجاوز ما في الكتب إلى ما تضفيه الجغرافيا المنوعة والتاريخ العريق على الإنسان من سحر خاص، في طليعة تلك الصفات.

هناك كثير مما يكتب عن عُمان التي لم أر منها حتى الآن سوى القليل جداً من مسقطها الجميلة على صعيد البناء المؤسساتي، ومشروعات البنى التحتية، بل إن دار الأوبرا التي زرتها زيارة خاطفة، وحدها تستحق الكثير من الكتابة. أجلت ذلك كله لأكتب فقط عن تواضع العمانيين الآسر والعريق.. ذلك أن تواضع البلدان وأهلها صار من عجائب الكرة الأرضية المتورّمة بغرورها، والذي سيودي بها إلى الهلاك.

دلالات
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.