خيبة مستهلك طيّب

06 أكتوبر 2015

سيارات فولكس فاغن في مصنع في ألمانيا (30 سبتمبر/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

من دون مقدمات، ومباشرةً بعد أن ألقيت تحية الصباح، باشر سمير، سائق التاكسي، اللائق الخلوق الصموت، الذي صودف أن ركبت معه أكثر من مرة، للجوئي إلى خدمات مكتب النقليات حيث يعمل، باشر حديثاً لم أكن مهيّأة لسماعه، ولا كان هو نفسه مهيّأ له، إذ بدا وكأنه يكمل كلاماً كان قد بدأه مع ذاته، قبل أن أقاطعه بدخولي إلى سيارته، عابساً ومستاءً، ومن دون أن ينظر حتى في المرآة الصغيرة أمامه، حيث ارتسم جزء من وجهي، قال:

كنا، إذ نتشاور في ما بيننا، بشأن أفضل ما ينبغي للمستهلك منّا أن يشتريه، حين يكون مقبلاً على شراء سيارة، تأثيث بيت جديد، أو استبدال قطعة فانية من أثاث بيته العتيق، ننصح بعضنا، ومن دون تردد، "بالألماني"، فهو الأفضل صنعاً، والأكثر متانة، والأفضل أداءً وطول بقاء على الإطلاق، بدءاً من المرسيدس والبي إم دبليو والفولكس، وصولاً إلى بوش وسيمنز وبراون وغرونديغ ومييل وويللا وشوارزكوف، وسواها من القطع والمستحضرات التي كان يكفينا أن نعرف أنها صُنّعت في ألمانيا، لنمنحها مباشرةً ثقتنا العمياء. وحين لا يكون بمقدورنا اقتناء الألماني، نتجه إلى الآسيوي، فنصنّفه على درجاتٍ، يقف الصيني الشعبي في أسفلها، في حين يتبوّأ الياباني، ثم الكوري أعلاها.

والآن، اكتشفنا أن شركة فولكسفاغن، تلك التي تفاخر بأنها صنعت "سيارة الشعب"، وتحتل نسبة 20% في السوق العالمية، وتبلغ أرباحها نحو 74 مليار يورو، تتلاعب في المعايير الخاصة بعوادم انبعاث الغازات بسياراتها "الديزل"، "فولكسفاغن" و"أودي". وكالة حماية البيئة الأميركية هي التي كشفت استخدام برنامج معلوماتي معقّد خلال اختبارات السيارات، فعمدت إلى اتهام الشركة بانتهاك قانون حماية المناخ الأميركي. يشمل هذا التلاعب في العوادم 11 مليون سيارة تم تسويقها في العالم. أستراليا تقدمت بعض دول أوروبا بشكاوى، وطالبت أخرى بتقديم توضيحات، فيما شدّدت الحكومة الألمانية على اختبار سيارات الشركة في سوق كوريا الجنوبية. وعلى سيرة كوريا الجنوبية، يبدو أن الأخ "سامسونغ" يغشّ، هو الآخر، بشأن استهلاك الطاقة في أجهزته، بعد أن أظهرت اختبارات أجهزة التلفاز التابعة للعلامة التجارية في أوروبا، أنها تستهلك طاقةً أقلّ، خلال الاختبارات، ممّا تفعل في أوضاع الاستخدام الاعتيادي. أي نعم، "حتى أنت يا بروتوس"؟

ثم سكت سمير. وكأنّ شريط الأخبار الذي كان يمرّ في رأسه انقطع فجأة. وما هي دقائق، حتى وصلت إلى وجهتي، فنزلت وغادرت. ولأيام، لم تغادرني المرارة والخيبة اللتان كانتا في صوته، ولا ذلك الحزن والانكسار اللذان ارتسما في عينيه. كأنّ ثمة من غدر به، سنوات، أخ أو حبيب أو صديق، وها هو أخيراً وقد اكتشف الخديعة. كأنه كان مصدّقاً، واثقاً، آمناً، وها إن الكارثة انكشفت لعينيه. كانت دقة المعلومات التي يتلوها، حول "خيانة" فولكسفاغن وسامسونغ، أشبه بفصول مكيدةٍ يعيد، هو الضحية، رسمها في ذهنه عشرات المرات، لمحاولة الفهم، وعقاباً لذاته على سذاجتها، غبائها، ثقتها المطلقة والعمياء. 

لم يخسر سمير مالاً، ليس صاحب أسهم في شركة تعرّضت للإفلاس، ليس صاحب سيارة أو تلفاز من هاتين العلامتين التجاريتين، وإن كان يحلم باقتنائهما، ليس مهووساً بالدفاع عن البيئة أو بحمايتها، أو مؤمناً بأن الأرض قرية كونية. هو ببساطة مستهلك "طيب" صغير، كانت دعايات العلامات التجارية ووعودها البرّاقة بشروط حياة أفضل، آخر ما تبقى له، آخر ما كان يصنع أيامه، وأحلامه، خشبة خلاصه وآخر ما يتمسّك به. والآن، وقد اتضح كذبها ورياؤها، بدت عليه ملامح الضياع.

ثمّة ما يشبه مشروع مسرحية عبثية، عن حيواتٍ فقدت ما تستند إليه، خرجت عن قانون الجاذبية، وهي تجري نحو شقائها، بسرعة الضوء.

هكذا، أو أنه قد تراءى لي.

 

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"