عبقرية الغرافيتي... وانتهاكاته

عبقرية الغرافيتي... وانتهاكاته

29 أكتوبر 2015

أمان مشروط..غرافيتي عبد الله العثمان (مدونة ألف جدار وجدار)

+ الخط -
كان ما بادرت إليه الفنانة المصرية، هبة أمين، في مسلسل Homeland، نموذجياً في تقديمه فنّ الغرافيتي. قبلت العمل على تهيئة أحد مواقع تصوير المسلسل العنصري تجاه العرب والباكستانيين والأفغان، واستغلت الفرصة لتضع على جدران الموقع عباراتٍ تسخر من المسلسل ورسالته وعنصريته. ولم يدرك منتجو المسلسل هذا إلا بعد عرض الحلقة. كتبت هبة أمين تدوينةً، تشرح فيها كيف قامت بالعمل ولماذا، وعنونتها "لماذا اخترقنا مسلسلاً حائزاً جوائز". واستخدمت كلمة اختراق (أو تهكير – Hack) لأن هذا ما يفعله الغرافيتي حيثما كان: إنهُ يتسللّ إلى خلفية المشهد، ويخترقه. 

لا يوجد الغرافيتي بطبيعته وضمن الحياة اليومية في الشارع موضوعاً رئيسياً للمشهد، إنه دائماً في الخلفية، خلف أحدهم على الحائط، أسفل لوحة إرشادية أو جوار إعلان تجاري، ستراه فقط إذا كنت ترغب في رؤيته وتلقّيه، وعندها يتحقق الاختراق. هو فنّ المهمّشين اجتماعياً في أيّ مستوى، الذين لا يملكون القوة الكافية لفرض أصواتهم في الدولة التي تحصر حقّ الكلام في أصواتٍ مُختارة بدقّة، سياسياً ودينياً وعرقياً واقتصادياً وحتى فنياً، تُعمم رؤيتها قسرياً على كل شيء في نوع من "الطمس" الاجتماعي الشامل، والغرافيتي هو تعبير الهامش عن مقاومته الانجراف مع "التيار السائد"، وإذا كنت مولعاً بالغرافيتي، وقبلها بحرية التعبير، فستشعر بالنشوة عند رؤية الكتابة أو الرسم على حائطٍ ما، حتى لو كان مضمونها ضد قناعاتك (كالرموز القَبَلية أو الكلمات الطائفية)، إنها نشوة تحسس الهامش، وملاحظة عجز أدوات الدولة الحديثة عن التحكم والرقابة عن السيطرة التامة. وعند دفع الغرافيتي إلى حدوده القصوى، كما فعل فنان الشارع بانكسي في تجربته الخاصة بنيويورك عام 2013، يمكن للغرافيتي أن يخلق الفوضى، ويبدأ نقاشاً اجتماعياً حياً في الشارع حول مفاهيم الفن والسلطة والشرعية.
لهذا، كان الغرافيتي أحد أبرز وسائل التعبير الثورية العربية في الأعوام الأخيرة، ليس فقط علامة على رفض التهميش الاجتماعي والسياسي والطمس الموضوعي. ولكن، أيضاً تعبيراً عن لحظة امتلاك هؤلاء المهمّشين للشارع، وعندما تمكّنت السلطة من إبعادهم تجلت الطبيعة المراوغة للغرافيتي، حيث ينجح دائماً أحدٌ في العودة متسللاً إلى المشهد، ليترك كلمته على حائطٍ ما، وعند طلاء الحائط الموبوء، يراوغ الغرافيتي محوّلاً الطمس إلى صفحة بيضاء للبدء من جديد، كما فعل المتظاهرون بسور القصر الرئاسي، زمن محمد مرسي، بعد أن تمّ طلاؤه لطمس احتجاجاتهم. واليوم، لا تزال الجدران في مصر والسعودية والبحرين وغيرها هي المساحات العَلَنية الوحيدة في المدينة التي يمكنها أن تتحمّل عبء السؤال عن شخصٍ يعتقله الأمن تعسفياً، أو ذكرى شابّ قتلته الشرطة في مظاهرة، أو احتجاجاً فئوياً، أو حتى هماً فردياً، لكنه، بمعنى ما، يتعلق بالجميع. أسلوب السلطة العربية في إغلاق المنافذ أو الاستحواذ عليها (الاستحواذ على شاشات التلفزيون، صفحات الصحف، مراقبة صفحات الإنترنت وحجبها)، يُحيل مربّعات الجدران إلى شاشاتٍ بديلة، على التلفزيون "نشرتهم"، وعلى الحائط "نشرتنا".
لهذا، طالما كان الإعلام الرسمي السعودي حريصاً على استحضار موضوع الغرافيتي الذي يسميه "ظاهرة الكتابة على الجدران"، من أجل توبيخه، لأنهُ "ظاهرة غير حضارية"، وأصبحت هذه اللغة في مقاربة الغرافيتي سائدة حتى شعبياً، على الرغم من أنها تفرض سؤالاً
حول مفهوم "الحضاري" هنا، ما هو التحضّر في هذا الخطاب؟ إنه "الامتثال"، الامتناع طوعاً عن معاكسة مربّعات السلطة، ولو بمربّعاتٍ هامشية كالجدران، لكن الامتثال مُنفّر. ولهذا، يتم تغيير اسمه إلى "التّحضّر"، والمتمرّد لا تعترف بوجوده السلطة. لهذا تصنّفه مجنوناً: "الجدران دفاتر المجانين". الغرافيتي يحتضن كل ما لا يمكن قوله رسمياً، وتحمّل مسؤوليته بشكل شخصي وعلني، والمفارقة أن هذا يشمل أيضاً الأفكار السلطوية المتطرفة والمضمرة في نظامٍ تسلّطي ما، لكنه لا يُصرّح بها، لكي لا تتآكل شرعية خطابه. النموذج العربي لهذه الحالة العبارات التي تركها جيش حافظ الأسد على ما تبقى من جدران حماة عام 1982: "لا إله إلا الوطن، ولا رسول إلا البعث"، أو ما يتركه شبيحة بشار منذ بداية الثورة: "الأسد أو نحرق البلد"، إنها الحقيقة التي لا يستطيع النظام التسلطي نفسه أن يُصرّح بها في خطابه الرسمي.
في سبيل توثيق الغرافيتي، يحوّله مهتمّون إلى صور يجمعونها من الشوارع العربية، فترى الغرافيتي من خلال مفهومهم واختياراتهم. تقدم رنا الجربوع في السعودية منظوراً مميزاً جداً عبر مدوّنتها "ألف جدار وجدار"، بينما تجنح مشاريع توثيقية أخرى إلى مناطق أكثر أمناً من اختيارات رنا الجريئة، فتهتم بتوثيق غرافيتي، تقع موضوعاته بين الآيات القرآنية والابتهالات والأشعار اللائقة. وعلى الرغم من أن الجدران الحرة تستوعب كل شيء، إلا أن الموضوع يبتعد عن روح الغرافيتي، بقدر ما يقترب مما يمكن العثور عليه في كتاب مدرسيّ، أو تلفزيون الدولة الرسمي. الطبيعة المراوغة للغرافيتي وفنّانيه تجعله فناً صعب الانتهاك، إنه هو بذاته فنّ انتهاكي لكل ما حوله، لكنه قد يُنتهك في حالة محددة: عندما يصبح موضوع الغرافيتي متطابقاً تماماً مع موضوع السُلطة، وعندما تتوقف الجدران عن المقاومة، وتخضع للتيار السائد. أحمد زهير لا يمثل في السعودية حالة فردية من سوء الفهم الفني، لكنه عبر جدارياته التي يرثي فيها الملك الراحل، ويؤيد "عاصفة الحزم"، وحراسته هذه الجداريات، لعزلها عن التفاعل الاجتماعي، وحضور مسؤولين رسميين لزيارة الجدارية، وشُكر الفنان حيث ينسى الجميع أن "الكتابة على الجدران ظاهرة غير حضارية"، إنما يمثل أحمد زهير في هذا كله عجز خطاب السلطة عن احتمال النهايات الحرة للهامش، وتوق هذا الخطاب إلى الاستحواذ حتى على المساحات الجانبية والتافهة، وتمدد سيطرته على المشهد، لتبلغ ما في خلفية المشهد، وهكذا، ربما، يُنتهك الغرافيتي.
من منظور سوسيولوجي صرف، في المجتمع السعودي، يمثل حقل الإنتاج الثقافي ككل حقلاً تابعاً للسلطة السياسية. لكن، داخل الحقل الثقافي نفسه تتفاوت المكانات، فيحتل المثقف الديني أرقى مكانة ثقافية ممكنة في الحقل، وهو مثقف السلطة الأساس، يليه المثقف العلماني، ويحتل الفنان مكانة وضيعة وهامشية تليهما، ويتعرّض إنتاجه عموماً إلى الحصار والمصادرة من المثقف الديني، لأسباب أيديولوجية ظاهرياً، ولأسباب تنافسية جوهرياً، حيث ينافس الفنان المثقف الديني على الشعبية والشهرة، وعلى التعبير عن المجتمع، بينما يُقصي المثقف الديني الفنان بقوّة الفتوى. الفنان الذي ينجح في اختراق هذا الصراع، صعوداً نحو مكانة اجتماعية مرموقة، فقط هو الفنان الذي ينجح في تأسيس علاقة مع السلطة السياسية (فيصبح فنان السلطة الذي يُنتج "الفنّ الشرعي") أو مع المثقف الديني (منتجاً ظاهرة "الفن الحلال": الأناشيد الإسلامية و"الروايات الآمنة"، إلخ)، أو مع كليهما. في الحقل الفني السعودي، المسافة الاجتماعية كبيرة جداً بين الفنان المحترف الذي يتمّ اختياره لغناء الأشعار الوطنية أمام الملك في افتتاح الجنادرية، والفنان الذي يتسلل ليرسم ويكتب عبارة ممنوعة على الجدار، هذا المستوى من الفنّ هو هامش الهامش، وضيع الوضيع، في هذا المجتمع، وهذا بالذات ما يجعله مفتوحاً أمام القضايا المتفجّرة، وجديراً بالقراءة. 

للتواصل مع الكاتبة عبر تويتر
Emanmag@ 



avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع