يا لملوحة هذا البحر
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
لو قُيّض للغرقى الكلام لقالوا الكثير، سيحكي بعضُهم عن آخر لحظاتٍ عاشها، قد يصفُ جدرانَ السفينة كيف أطبقت على روحه وعصرت جسده، وقد يحكي عن أسماك القرش التي تنبّهت للفرائس الطازجة التي أتتها هدايا ملوّنة بطعومٍ متنوعة، وقد يكتفي بذرف دمعةٍ على شقيقه الذي نجا إلى الحياة وغادر عالم الخلود. قد يحكي بعضُهم عن شريط الذكريات التي مرّت أمام ناظريه، فيقصُّ على مسامعنا عن شجرة التوت في ساحة الدار وعن بئر المياه التي طالما حسبها بوابّة الجنّ إلى العالم السفلي. قد يسرُد لنا مسيرته من لحظة الألم الأولى حين وقع فريسة الختان، وقد يحكي عن أول يومٍ له في المدرسة مع لفافة الزيت والزعتر، وقد يبكي ثانيةً على أمّه التي افتقدها مرتين، مرّة حين ماتت ولم يودّعها لأنّه كان يخدم علم الوطن، ومرّة حين مات هو ولم تودّعه لأنّه صار ملحًا لجُرح لم يندمل. قد يحكي لنا طفلٌ عن رؤيته درّاجته الحمراء أمام ناظريْه، وقد يصف لنا شكل المنازل والمدارس والشوارع التي أخبره عنها والده قبل صعوده متن سفينة الأحلام، قد يتذكّر فرِحًا عصفورًا سقط من العشّ فأنقذه من براثن قطّ متربّص، وقد يعتذرُ خجِلًا من دمعات شقيقاته اللواتي بقينَ على برٍّ لا يصل إلى الأمان. لو قُيّضَ للغرقى أن يعودوا ليبدأوا حياتهم من جديد في بلادٍ أنجبتهم لما عادوا، فكثيرون منهم سئمَوا التراب وأتوا بحثًا عن طرق جديدة للحياة، فإن لم يجدوا، فعن طرقٍ أكثر إثارة للموت غير الرصاص وسياط الجلادين.
سيكتب التاريخُ كثيرًا عن هذا الهجيج السوري المتجدّد، سيحكي الرواة عن هذه الدياسبورا الجديدة، فمن شتات السفربرلك إلى النكسة وصولًا إلى براميل الأسد، لا يزال خطّ الدم راعفًا. هكذا يطمئنّ الراحلون إلى مصيرهم، ويتهلّل السابقون بقدوم من كان يمكن أن يكونوا أحفادهم هم، فيما لو قدّر لهم أن يبقوا آنذاك على قيد الحياة. لم تنته فصول الملحمة، فثمّة غولٌ يُعاد تجميله بمساحيق الأنظمة الشبيهة، وهذا لم يشبع بعدُ من لحوم السوريين، ولم يرتوِ بعدُ من دمائهم. وحتى نحكي الحكاية لا بدّ لنا أن نتذكّر دومًا لماذا خرج هؤلاء من ديارهم، ومن ذا الذي أخرجهم منها، ولماذا. هناك حيث دارت يومًا معركة إرادة الحياة بمواجهة إرادة القتل، وصناعة الإنسانية بمواجهة صناعة التوحّش. من تلك البقعة الصغيرة التي كانت يومًا في قلب سهول القمح التي أطعمت روما، خرج أولئك الفتيانُ قاصدين عاصمتهم القديمة هربًا من عاصمتهم التي أذلّتهم وسامتهم سوء العذاب.
حياديًّا كأثر انعكاس صورة الشمس على سطحه، بدا وجه البحر بلا عنوان، رغم فجاجة المأساة وألم الفقد. وهكذا كان سلوك جامعة الدول العربية وحكومات كلّ الدول التي ينتمي إليها الغرقى. وباستثناء أهالي الضحايا ذاتهم، لم يتحرّك أحدٌ لملاقاتهم في طريق البحث عن الحقيقة، اللهم إلا هبّة شعبية في بعض مدن اليونان غاضبة من سلوك سلطات بلدهم الشائن تجاه هذه المأساة. على العكس، كان لخبر فقدان التواصل مع غوّاصة تيتان، ثم التفاعل الكبير مع مأساة ضحاياها وذويهم، مقارنة بالتجاهل المريب لمأساة مئات المهاجرين الغرقى قبالة سواحل اليونان، أثرٌ في رسم صورة أكثر واقعيّةً لمبادئ المساواة بين البشر. تجدّد مثل هذه المفارقات أسئلة كبرى لا ينضبُ معينها حول الصدق والتعاطف والتسامح واحترام الآدمية لكل البشر وكثيرٍ من القيم الأخلاقيّة حتى، فهل صحيح ما يقوله علماءُ النفس إنّ الناس يتعاطفون مع من يعرفونهم في مقارنة بين الخمسة البيض ذوي الملامح الغربية المعروفة أدّق تفاصيل حياتهم، وبين الخمسمئة الغرقى السمر المدهونين بظلال حجبت تقاطيع وجوههم، فباتوا ملمحًا غير معيّنٍ لمجهول يمكن اختصاره برقم؟ أم أنّ الأمر يعدو ذلك إلى أن المطلقات ذاتها، ومن بينها مبادئ المساواة بين البشر، تنقسم إلى فئاتٍ يندرج تحتها بعضهم بينما لا تتّسع لبعض آخر؟ هذا ما تشي به الوقائع والارتكاسات البشرية عليها.
لو قُيّضَ للغرقى أن يتكلموا، ولو قُيّضَ للمفقودين أن يعودوا، لقالوا الكثير عن ملوحة هذا البحر
ولكن لِمَ على الأوروبيين أن يهتمّوا لهؤلاء القادمين من ساحات الحروب المشتعلة في غير قارّتهم، أوليس ينطبق عليهم أيضًا ما ينطبق علينا من قوله عزّ وجلّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.. ﴾ [البقرة: 215]، أليس الأوكرانيون أقرب إليهم دينًا وعرقًا وأرضًا وعاداتٍ وتقاليدَ وقيمًا، كما بالمصير والمصالح؟ وإذا كان أهل البلاد التي نعتبرهم أهلنا قد جحدونا وأوصدوا في وجوهنا بوابات حدودهم، فهل نعتب على الغرباء؟ أليس في موقف العرب من التصويت على قرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة عن إنشاء مؤسسة مستقلّة خاصّة تُعنى بشؤون المفقودين والمختفين قسريًا في سورية عبرة؟ يكاد المريبُ أن يقول خذوني، فهذه الأنظمة المتماسكة من البحر إلى البحر ليست إلا "سجانًا يمسك سجّان" كما قال مظفّر النواب ذات قصيدة، ولولا أنّ قطر والكويت صوّتتا لصالح هذا القرار وأعادتا للإنسانيّة بعض اعتبارها عربيًا، لحقّ لنا القول إنّ العرب، بل كلُّ حكّامِ العرب، قد باتوا في وادي الاستبدادِ، بينما ينفر العالم نحو الحرية والكرامة وحقوق الإنسان...!
لو قُيّضَ للغرقى أن يتكلموا، ولو قُيّضَ للمفقودين أن يعودوا، لقالوا الكثير عن ملوحة هذا البحر، وكأنّ المُنبتّ يحضرُ من جديد ليس فقط على ألسنة رواة الحديث وفي مقدّمات روايات عبد الرحمن منيف، بل في واقعنا المزري أيضًا، فلا هو أرضًا قطعَ ولا هو ظهرًا أبقى.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.