هو والأطباء: الإنسان إذ يقطع جذع شجرة يقف عليه
اعتدى في القاهرة، في 28 يناير/ كانون الثاني عام 2016، أمناء شرطة على طبيبين في مستشفى المطرية التعليمي، بعدما رفض الطبيبان تزوير تقرير طبي لأحدهم، فكان ما يمكن أن نسميه "يوم غضب الشرطة"، على غرار "جمعة الغضب" في 28 يناير 2011. في حينه، كان وائل الإبراشي، في برنامجه على قناة دريم "العاشرة مساء"، وهو آخر البرامج الحوارية البارزة في مصر قبل هيمنة عروض الرجل الواحد لاحقا، من أكثر الإعلاميين الذين اهتموا بتغطية الحدث. رفضت سلطات الدولة كلها (الحكومة، النيابة العامة، البرلمان، الإعلام) توجيه الاتهام لأمناء الشرطة، على الرغم من أن الجريمة كانت واقعةً بينة، ما استدعى احتجاجاتٍ قادتها نقابة الأطباء آنذاك. وفي تغطيته، حرص الإبراشي على دعوة ممثلين لكل وجهات النظر، لكن رأيه الشخصي، رفض الاحتجاجات واعتبارها تسييسا، كان واضحا.
اختار الإعلام، وقت الحادثة، أن يواجه المنطق الذي لا يمكن تفنيده لاحتجاجات الأطباء بنغمة أخطاء الأطباء. أقول "نغمة" لأن ما حدث لم يكن فتح ملف استقصائي بشأن أخطاء الأطباء وأنواعها ونسبها وأسبابها، بل كان شكلا من شجارات الصوت المرتفع. يكفي هنا أن نذكر أن الإبراشي، وهو أكثر الإعلاميين وقتها رصانةً في تناول الموضوع، كان ضيفه لنقد احتجاجات الأطباء ليس نقابيا ولا خبيرا في مجال الصحة ولا طبيبا ولا مثقفا، بل المحامي سمير صبري.
الأطباء ليسوا أرقاما، إذ لا يمكن تعويض طبيب لديه خبرة خمس سنوات فأكثر بطبيب تخرّج للتو
بعد عامين، ظهر مؤمن عبد العظيم، أحد الطبيبيْن اللذين تعرّضا للاعتداء، رافعا علامة النصر أمام نقابة الأطباء الألمانية، بعد حصوله على تصريح مزاولة المهنة في ألمانيا. لم يكن الوحيد، فبحسب تقرير للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، هاجر نحو سبعة آلاف طبيب مصري إلى الخارج منذ بدء جائحة كورونا. إذا أضفنا وفياتٍ تقترب بمرور الأيام من الألف بين الأطباء، سنحصل على نتيجة يفترض أن تثير الفزع: خسرت مصر خلال العامين السابقين 8% من قوتها البشرية من الأطباء العاملين فيها، والمقدّرين بنحو مائة ألف طبيب.
يمكن القول إن العامين شهدا تخرّج نحو ضعف ذلك العدد من الأطباء الجدد، لكن ما لا ينتبه إليه ذلك الاستنتاج أن الأطباء ليسوا أرقاما، فلا يمكن تعويض طبيب لديه خبرة خمس سنوات فأكثر، خصوصا إذا كانت تلك الخبرة اختصاصية في حقل محدّد من الطب بطبيب حديث، يحتاج زميله ذاك الذي يكبره من أجل نقل الخبرة والتدريب، ليتمكّن من الوصول إلى المستوى نفسه في مدة قصيرة. والخبرة في الطب ليست ميزة، بل ضرورة. على الرغم من أطنان الإرشادات التي تنتجها المؤسّسات الصحية في محاولة لضبط الممارسة الطبية، يبقى الطبيب شيئا أكثر من حاسوب يصنع قرارات أحد مكوّناتها هو حسّه الطبي.
بينما ينتصب الجهل المتكبر زاهيا بإسكاته الجميع، سيكون تحت قدميه قطاعٌ صحي متهالك
عندما اعترض الإبراشي ورفاقه على احتجاجات الأطباء لم ينتبهوا بما يكفي إلى أنهم جزء من هذا المجتمع شاؤوا أم أبوا. يمكنهم، بالطبع، أحيانا أن يسافروا للعلاج في الخارج، لكنهم سيضطرون أحيانا أيضا إلى تلقي العلاج في مصر.. على الطريقة المصرية. وهذه الطريقة هي كل هذا السياق، ميزانية الصحة المحدودة التي لا تقترب حتى من الحد الأدنى المقرّر دستوريا لها، المشافي الحكومية ضعيفة التجهيز، الأطباء الخاضعون للإفقار والإنهاك اليومي والساخطون على أوضاعهم المهنية والاجتماعية. الاستقرار السياسي الذي يصنعه إلغاء احتجاجات الأطباء لن يمكنه ساعتها أن يقدّم وصفة طبية لعلاج واحد من هؤلاء المدافعين عنه. كل كلمة تقال بعد ذلك عن أخطاء الأطباء وإهمالهم هي في الواقع إدانة لكل هذا السياق الاجتماعي الذي أفرز هؤلاء الأطباء وأخطاءهم.
ما يحدُث شكل من أشكال الجدل الاجتماعي، عندما يصل أي اتجاه إلى ذروته يولد من داخله ما يكبحه. التردّي في القطاع الصحي في مصر، وهو أمر يتجاوز كثيرا الأخطاء الطبية التي هي أمر لا بد أن يقع في المهنة، هو الضريبة التي سيدفعها هذا التعامي. بينما ينتصب الجهل المتكبر زاهيا بإسكاته الجميع، سيكون تحت قدميه قطاعٌ صحي متهالك، تماما كغصن القط توم الذي ينشره بينما يقف هو نفسه على طرفه. اللامبالاة الطبية إن وجدت حقا في هذا السياق ستكون نوعا من الاحتجاج القاعدي المكبوت، احتجاج لا واعٍ لا يقصد إليه أصحابه، ربما حتى يستاؤون منه، لكنهم يعلمون، في قرارة أنفسهم، أنهم لا يملكون تغييره وإن أرادوا.