هل تُنصف "العدل الدولية" أهل غزّة؟

هل تُنصف "العدل الدولية" أهل غزّة؟

13 يناير 2024
+ الخط -

أخيرا، أجبرت إسرائيل على الوقوف أمام المحكمة الدولية للمرّة الأولى منذ تأسيسها. حصل ذلك بفضل جرأة دولة جنوب أفريقيا التي نزلت، بثقلها وبرمزية تاريخها السياسي وعظمة زعيمها نيلسون مانديلا، مثال الصمود والحكمة الأفريقية، والذي انحاز إلى قضية الشعب الفلسطيني، ليس فقط ردّا لجميل هذا الشعب الذي وقف بقوة ضد النظام العنصري، ولكن أيضا لأن هذا الزعيم الثائر أدرك، منذ وقت مبكّر، أن الصهيونية هي الوجه الآخر للعنصرية.

يتساءل كثيرون عن الجدوى من هذه المحاكمة، وخصوصا أن الولايات المتحدة استبقت الحدث، واعتبرت، على لسان وزير خارجيتها، بأنها تعتقد أن ما حصل لا علاقة له بالإبادة الجماعية، في محاولة منها لقطع الطريق أمام خصوم إسرائيل.

يدرك الجميع أن المحكمة تحتاج وقتا طويلا لتُصدر حكمها، وقد يتطلّب ذلك عدّة سنوات، لهذا وردت في شكوى جنوب أفريقيا دعوة هيئة المحكمة إلى إصدار "تدابير مؤقّتة" بشكل عاجل، في مقدّمتها وقف إطلاق النار، كذلك دعوة إسرائيل إلى عدم المسّ بآثار الحرب خوفا من طمس الأدلة.

المؤكد أن إسرائيل أصبحت مُدانة على نطاق واسع، إذ بالإضافة إلى الجمعيات الحقوقية التي أصدرت بيانات إدانة، هناك مئات المحامين من جنسيات متعدّدة، بمن فيهم يهود، الذين تقدّموا للمرافعة عن ضحايا هذه الحرب الظالمة. حتى أن الإسرائيليين أنفسهم تابعوا بقلق الجلسة الأولى للمحكمة، وانتابهم خوفٌ من احتمال إدانة دولتهم، بسبب الانتهاكات الضخمة التي جرى ارتكابها، فوثيقة الإدانة المقدّمة للمحكمة شارك في إعدادها 84 خبيرا في اختصاص جرائم الإبادة، ما من شأنه أن يضع إسرائيل، أول مرّة، في وضع حرج جدا، وخصوصا أن التقرير تجنّب تبرير ما حصل يوم 7 اكتوبر، ودافع عن المدنيين الإسرائيليين الذين قتلوا يومها.

إلى جانب الآثار المادية الملموسة للحرب، هناك تصريحات كبار المسؤولين في الكيان الذين لم يتردّدوا في تبرير المجازر، وتعرّضوا للتهجير القسري لسكان غزّة. وبلغ بهم الأمر الحديث عن اتصالات جارية مع عدة دول أفريقية في محاولة لإغراء حكوماتها مقابل استقبال جزء من الفلسطينيين وتوطينهم. وهو ما جعل صحافيين غربيين وغيرهم يخرجون عن تحفّظهم السابق، ويقارنون القادة الإسرائيليين بالنظام النازي. تكفي الإشارة إلى ما صرح به رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، بأن "وجود بن غفير وسموتريتش في الحكومة أمر فظيع.. إنهم سفاحون وقتلة وإرهابيون".

قبول محكمة العدل الدولية الشكوى ضد إسرائيل حدث تاريخي غير مسبوق. إنه يعني أن الإرهاب النفسي والمالي والسياسي الذي مارسه الكيان الصهيوني ضد المجتمع الدولي لم يعد يخيف الجميع. يدلّ ما صرّحت به كل من الحكومتين الإسبانية والبلجيكية، بوضوح، على أن تحوّلات في العمق بدأت تحدُث داخل الجسم الغربي، ومنها ولادة حزب في أميركا ولاؤه السياسي ليس للحركة الصهيونية، ولا يخضع للوبي اليهودي الموالي لإسرائيل. تثير هذه التحولات الخوف لدى عديد اليهود الكبار، نظرا إلى الانعكاسات الخطيرة على المستقبل السياسي لليهود ولإسرائيل. كما أن مجلس سان فرانسيسكو، عندما أعلن وقف إطلاق النار، يعتبر ذلك انتصارا رمزيا مهما للقضية الفلسطينية، فهذا المجلس تأسّس في عام 1945، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ورغم أنه هيئة لا تتمتّع بصلاحيات تنفيذية مُلزمة، إلا أن أهميته الرمزية تجعل لقراره تأثيرا ضاغطا على الكونغرس والإدارة الأميركية.

المزعج في ما يجري أن العالم العربي والإسلامي هو الطرف الأساسي الغائب في هذا الحدث التاريخي. لم تلتحق أيّ حكومة في المنطقة بدولة جنوب أفريقيا لدعم خطوتها، رغم أن منظمة المؤتمر الإسلامي عبّرت عن دعمها لهذه الخطوة.

لحظة فارقة يتابعها العالم في كل مكان. هي أشبه بسعي من أجل إنقاذ عالم القيم والمبادئ الإنسانية، فالمستقبل مرهون بما ستُصدره المحكمة. إذا انحازت إلى آلاف الضحايا، ودانت بوضوح إسرائيل، سيكون ذلك انتصارا للحقّ والعدالة، أما عكس ذلك، فالخراب الإنساني سيعمّ العالم.