نوستراداموس العرب

نوستراداموس العرب

14 يناير 2023

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

كأنه "منطق" عادل إمام في "مدرسة المشاغبين"، عندما وجد له تفسيرًا يليق بالعصر الجديد، الذي تداعت فيه كل المعايير والموازين، ليُفحم معلمته "أبلة عفّت" التي كانت تبحث عن إجابة علمية، لكنها اضطرّت أخيرًا للاستسلام، لا أمام الإجابة بحدّ ذاتها، بل لأنها أدركت جيدًا "منطق العصر"، القائم على السخريات و"الهمبكات"، بديلاً من النظريات والفلسفات وأفكار أرسطو وكانط وديكارت.

ولأن مدرسة المشاغبين اتسعت صفوفها وكثر طلابها العرب، صار لزامًا إجراء كثير من عمليات الإحلال والإبدال، ليصبح لمنطق العصر الجديد وزن معترف به، سيما وقد خالطته العرافة والكهانة، وقراءة الكفّ، التي غدت المنطق الوحيد لفهم العالم، على غرار ما نلحظه اليوم من تناسل غريب في صفوف العرّافين والمتنبئين العرب.

عمومًا، كان يمكن لمهرجانات رؤوس السنة أن تفقد دهشتها لولا الإسعافات الأولية التي انتشلتها من براثن الروتين، بفضل جوقة هؤلاء العرّافين والكهنة الجدد، الذين باتوا يُغدقون علينا كل عام، ما تجود عليهم عفاريتهم من نبوءات وغيبيّات تغطي أبراج السنة برمتها، وتتيح لنا كشف ما تخفيه الأبواب المغلقة. وكان، يمكن، أيضًا، أن تكون هذه التنبؤات محصورةً في إطار الطقوس السنوية المعتادة، لولا أنها بدأت تتسلّل إلى دوائر الإعلام والسياسة، لتصبح خبرًا صحفيًّا تترصّده وكالات إخبارية وفضائيات تلفزيونية، لتستقطع كل محطة ما يهم بلدها من تلك النبوءات.

حدث هذا خلال رأس السنة الحالي، عندما راحت وكالات أنباء ومواقع إخبارية وقورة تقتطع أجزاء من نبوءات "نوستراداموس العرب"، خلال لقائه التلفزيوني المعتاد سنويًّا على إحدى الفضائيات اللبنانية، التي يدلي فيها بسيل تنبؤاته المحلية والعربية والعالمية التي ستشهدها السنة الجديدة، ومن ثم تبثّها أخبارًا عاجلة على صفحاتها بعناوين لا تخلو من الإثارة طبعًا.

لم أكن شخصيًّا في معزل عن تلك التنبؤات رغم أنفي، عندما راح هاتفي الخلوي يستقبل حزمة من الأخبار العاجلة التي ظننتها، في البداية، تتحدّث عن انقلاب عسكريّ في بلد ما، أو حرب عالمية جديدة، لأفاجأ بسلسلة عناوين لخبر واحد، على غرار: "تنبؤات نوستراداموس العرب للأردن في العام 2023".. و"الأردن سيشهد أحداثًا أمنية في العقبة بحسب توقعات نوستراداموس".

هذا ما يخصّ الأردن، أما بقية الدول العربية الأخرى فلها وكالاتها الإخبارية التي اقتطفت حصتها من نبوءات صاحبنا. وأراهن أن ثمّة ساسة عرباً كانوا يستمعون إلى تلك التنبؤات، وقلوبهم تخفق فزعًا، خشية أن يكون أحدُهم معنيّاً بنبوءة سوء.

أدرك أن الدعوة إلى "العقلانية" في بلاد العرب بضاعة كاسدة، ولست ألومهم على ذلك، لأن العقل العربي مختطفٌ منذ أجيال، بفضل الطغاة والمستبدّين وأذنابهم من علماء "النقل" والمسبّحين بحمدهم، غير أني كنت أراهن أن الزمن، بما يحمله من ثورات معرفية، كفيل على الأقلّ، بالحدّ من إيمان العربي بالنبوءات، لكن ما يحدث هو العكس، تمامًا، بدليل هذا التهافت المهول على متابعة برامج العرّافين والعرّافات، وترقّب كل جديد يصدُر عنهم، سيما مطلع كلّ عام، وثمّة من يؤمنون إيمانًا مطلقًا بصحة هذه النبوءات، ويربطون إيقاع حياتهم وفقها، فإن أشار المتنبئ إلى كارثة ستحلّ ببقعة جغرافية ما، تجنّبوا السفر إليها، أو رحلوا عنها إن كانوا مقيمين فيها.

عمومًا، ما دمنا نتبنّى النبوءة إلى هذا الحدّ، أقترح على ساسة العرب أن يستعينوا بالكهنة والعرّافين لرسم الخطط والسياسات، بدلًا من وزارات التخطيط ومراكز البحث المفرغة من محتواها، أصلًا، لأنها محضُ ديكورات كما نعرفها. وفي هذه الحالة، سيتاح لنا وفر مالي فادح، إذ يكفي عرّافٌ واحد يطلعنا على مفاتيح المستقبل، وينبئنا بمصائر قضايانا الكبرى، ويحدّد اتجاهاتنا، مع إدراكي التام أن ساستنا على استعداد لتوظيف الخرافة والكهانة والعرافة، إن كانت ستتيح لهم توطيدًا إضافيًّا لسلطتهم، هذا إذا لم يكونوا قد لجأوا إلى ذلك فعليًّا، كونهم الأقدر على شراء الذمم.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.