مهرجان دواير وتهمة التسليع

مهرجان دواير وتهمة التسليع

15 يوليو 2023
+ الخط -

يُعقد هذه الأيام في "وسط البلد" في القاهرة مهرجان دواير الثقافي في دورته الأولى، بتعاون بين مكتبتي ديوان وتنمية، وهما من أشهر المكتبات المصرية التي افتتحت في القاهرة بعد ثورة يناير (2011). وفيما تتصف "ديوان" بارتفاع أسعارها قياساً بباقي المكتبات ما جعل منها مكتبة "النخبة الاجتماعية"، شكّلت مكتبة تنمية مقصداً ملائماً للقرّاء من أبناء الطبقة الوسطى وطلاب الجامعات، لتوفيرها الكتب المطلوبة لهم، واعتمادها على طباعة نسخ مصرية بالتعاون مع دور نشر عربية مشهورة، كي تصل الكتب إلى القارئ المصري بكلفة تتناسب مع متوسط الدخل في البلد، وهي خطوة كلفت صاحب المكتبة (خالد لطفي) خمس سنوات من حرّيته جرّاء إعادة طباعته نسخة مصرية من كتاب "الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل" من دون موافقة مسبقة؛ وها هو، بعد خروجه، يحاول استعادة مكانة المكتبة في وسط البلد عبر مهرجان دواير الذي يستضيف كتّاباً عرباً ومصريين في ندواتٍ ثقافيةٍ وفنيةٍ وسمنار كتابة وتواقيع كتب ولقاءات ثقافية بين الجمهور وبعض الكتاب ومعرض كتب تشارك فيه دور نشر مصرية وعربية.

واللافت أنّ المهرجان يقام في سينما راديو في شارع طلعت حرب في وسط القاهرة، التي تشرف عليها حالياً شركة الإسماعيلية وتعيد ترميمها وإحيائها، في محاولة للقضاء على العشوائية التي سيطرت عليها منذ عقود، واستعادة ألقها الثقافي والمدني؛ وهو أحد أكثر الأسباب التي جعلت المهرجان يحظى بحضور ثقافي وشبابي لافت فعلا؛ أن يستعيد وسط البلد دوره المدني الذي انتهى تماماً مع إلغاء تظاهرة "الفن ميدان" المدنية التي كانت تقام في ميدان عابدين في السبت الأول من كل شهر، وكانت واحدة من أكثر إرهاصات ثورة يناير تجليّاً ومشاركة وبهجة.

ومثل كلّ التظاهرات المشابهة، ستجد في الوسط الثقافي من يهاجم مهرجان دواير، فهو كما يتهمه بعضهم "يقوم على المحسوبيات والشللية بعيداً عن الموهبة والأهمية" (الأسماء المشاركة، خصوصا المصرية، من الأكثر حضوراً وتأثيراً في الثقافة المصرية حاليا). وليس خافياً أنّ اتهاماً كهذا وراءه شعور بالتجاهل والتهميش ورغبة في المشاركة تخجل عن التصريح، فتلجأ إلى الاتهامات. على أنّ ما لفت نظري اتهام بعض المثقفين المصريين (قوميين ويساريين) المهرجان بأنه "يساهم في تسليع الثقافة" لأنه ليس مجّانياً، فعلى الراغبين في الحضور دفع مبلغ بسيط لقاء تذكرة الدخول، وهذا معمول به في دول كثيرة. وهذا في رأيي لا يقلّل من قيمة الثقافة أبداً، بل من شأنه أن يضع الثقافة وصنّاعها في دائرة الإنتاج التي تراعي، بالتوازي مع دورها المعرفي والتنويري، قيمتها الاقتصادية، وتساعد على أن يكون الكاتب والمثقف متفرّغاً لكتابته وليس مضطرّاً للعمل في أي مكان آخر، كما يحدُث في بلادنا. ثم ألا يندرج المسرح والسينما والحفلات الموسيقية والفنية ضمن إطار الثقافة والتنوير؟ لماذا نشعر أن من الطبيعي أن ندفع لقاء حضورنا فيلماً سينمائياً أو عرضاً مسرحياً أو فنياً ولا ندفع مقابل حضورنا ندوة ثقافية أو أمسية شعرية أو لقاء مع كاتب ما؟ لماذا يستهين المثقف نفسه بقيمته وقيمة زملائه؟ وهل دفع مبلغ بسيط سوف يسلّع الثقافة حقا؟

سعت الأنظمة الشمولية إلى ترويج مصطلح الثقافة الجماهيرية، محاولة تكريسها بجعلها مجانية وفي متناول الجميع، لكنها، في الوقت نفسه، ألغت خصوصية المبدع بوصفه ذاتاً مبدعة مستقلة لصالح الجماعة التي ستصبح، بعد حين، شعبوية تنتج ثقافة ركيكة وهزيلة غير قادرة على الخروج عن رؤية الأنظمة وفكرتها عن الثقافة. وهو الأمر الذي جعل من الثقافة البديلة (القائمة على أكتاف المجتمع المدني) محظورة لدى معظم الدول ذات الأنظمة الشمولية، وتهاجم من المثقفين أنفسهم بذريعة أنها مموّلة، وبالتالي خاضعة لمزاج المموّل وأجندته، متجاهلين أنّ الثقافة الرسمية، كما تسمّى، خاضعة أيضا لمزاج النظام الراعي لها ومروّجها، ومتجاهلين أنّ ما تعيشه بلادنا من أميّة ثقافية وتردٍّ في أوضاع الثقافة والفكر سببه الأول حصر الثقافة ضمن أيديولوجية الأنظمة الحاكمة وإيجاد طبقة ثقافية متهافتة ركيكة، لا تنتج سوى ركاكة شعبوية تقف في وجه أي حراكٍ تغييري حقيقي.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.