من باب المندب إلى معبر رفح

من باب المندب إلى معبر رفح

01 مارس 2024

سفينة شحن تتجه نحو مضيق باب المندب في أوبوك في جيبوتي (19/1/2024/Getty)

+ الخط -

عندما أعلن الحوثيون عن بداية حملتهم على السفن المملوكة كليا أو جزئيا لأفراد أو كيانات صهيونية، والسفن التي ترفع العلم الصهيوني، أو المملوكة لأفرادٍ أو كياناتٍ أميركيةٍ أو بريطانية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ربطوا إيقاف عملياتهم في مضيق باب المندب بإنهاء العدوان على غزّة، غير أن الأطراف الغربية والجهات الداعمة للكيان الصهيوني تعاملت مع ما يجري بوصفه من أعمال القرصنة، محاولة انتزاعه من سياقه السياسي.

من الناحية الاستراتيجية، تشكل المضائق مساحاتٍ محدودةً ومكتظّةً بالنسبة لأهمية تدفق السفن التي تمر عبرها وهي مفترق طرق حقيقي بجميع المقاييس، يجتازها أهم الفاعلين في التجارة الدولية، والقوات البحرية، والهجرات الدولية، وإذا كانت المضائق دائماً مساحات للتعاون والأزمات، فإن مضيق باب المندب، في ظل الصراع الدائر على ضفافه والتعاون بين الجهات المحلية والإقليمية والدولية، ليس استثناءً. ولهذا، كان من الطبيعي أن تترتّب عن العمليات العسكرية الحوثية حالة من الاستنفار الدولي، وأن يؤدي إلى حالة من الصراع الخطير، الذي إذا لم تجر معالجته بسرعة، فإن آثاره ستتجاوز محاصرة السفن الصهيونية، ليكون له تأثير على الاقتصاد الدولي، ويهدّد، في حالة استمراره، بإغراق أوروبا في مرحلة جديدة من الأزمات الاقتصادية الخطيرة. والواقع أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، قرّر بسرعة التحرّك من خلال إنشاء تحالف دولي بدعوى التصدّي للحصار الذي يفرضه الحوثيون على باب المندب. ويضمّ التحالف دولاً متعدّدة من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا والبحرين وكندا وهولندا والنرويج وسيشيل، وجهّز الاتحاد الأوروبي العدّة والعديد لإطلاق مهمّته الخاصة للتصدّي لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، لكن بدون المشاركة في الضربات الأميركية البريطانية التي تستهدفهم.

الغائب عن هذا التوجّه الغربي لحل أزمة باب المندب عبر الحملات العسكرية هو البحث عن السبب المركزي الذي أدّى إلى اشتعالها، وهي قضية العدوان على غزّة. وإذا كان التأثير على السير الطبيعي للملاحة في البحر الأحمر يمثل مشكلا حقيقيا لبعض الدول الغربية، فإن ما يجري في غزّة من عمليات الإبادة يمثل كارثة إنسانية فعلية، وإن القوى الغربية الكبرى ومن تابعها من الدويلات التي سارعت إلى التحشيد ضد العمليات الحوثية تتغاضى عمّا هو أشدّ وأنكى، وهو إغلاق معبر رفح ومنع المساعدات الإنسانية من التدفق إلى غزّة، حيث تتواتر التقارير الأممية والإعلامية عن حصول كارثة فعلية من حيث غياب الغذاء وخروج المستشفيات عن الخدمة وشلل المرافق الحياتية.

يشكّل الموقف الغربي مما يجري في باب المندب تعبيراً متكرّرا عن حالة الازدواجية والكيل بمكيالين التي تقوم عليها الرؤية الغربية الكولونيالية للعالم

يشكّل الموقف الغربي مما يجري في باب المندب تعبيراً متكرّرا عن حالة الازدواجية والكيل بمكيالين التي تقوم عليها الرؤية الغربية الكولونيالية للعالم، فتعطيل التجارة الدولية، وإن جزئياً، ولا تمس حياة الأفراد والمجتمعات بشكل مباشر، هو، في نظرهم، تهديد حقيقي يتم لأجله حشد الجيوش وتحريك الأساطيل. وفي المقابل، تعتبر محاصرة شريط جغرافي صغير وإبادة سكانه فعلا مبرّرا باعتباره يندرج ضمن الدفاع عن النفس، كما تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها أن تصوّر الأمر.

في عنق الزجاجة الصغير للتجارة العالمية الذي يسمّى باب المندب، هناك لعبة تتجاوز تداعياتها مطالب الحوثيين. ما هو أبعد من الادّعاءات الغربية بحماية التجارة الدولية، أو ما يحاول بعضهم إدراجه ضمن التنافس الإيراني السعودي، هناك المأساة في غزّة، ودخول الطرف الأميركي وحلفائه على الخط لمنع أي دعم للمقاومة الفلسطينية، ولعب دور الحامي الأكبر الذي يقدّم الخدمات للكيان الصهيوني، حتى يواصل عدوانَه تحت بصر العالم وسمعه، من دون أن يتدخّل أي طرفٍ لردعه أو حتى لجعله يدفع بعضا من كلفة عدوانه على الشعب الفلسطيني.

رغم أن العام الجديد بدأ على خلفية المآسي الإنسانية، فإنه يستمرّ على الوتيرة نفسها، حيث الأولوية لدى الدول الكولونيالية هي حماية الاحتلال، وليس رفع الحصار أو وقف العدوان في ظل حالة من الانتكاس الرسمي العربي والصمت الدولي. ولهذا سيستمر تقييد عمل معبر رفح، أما باب المندب فمن السهل تخمين كيف سيتطوّر الوضع، خصوصاً وأن الحوثيين سبق أن أعلنوا أنهم لا ينوون كسر الحصار على المضيق، إلا بانسحاب الجيش الصهيوني من غزّة. ولذلك من المحتمل جدّاً أن يكون هناك أيضاً تصعيد، مع إضافة حلقة أخرى إلى سلسلة الصراعات الطويلة بالفعل في هذه الحرب العالمية المجزّأة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.