مصر "منوّرة" بحكومتها
بعد أن عاش المصريون بضعة أسابيع في ظلام متقطّع، بدأت الأبعاد الحقيقية لأزمة انقطاع الطاقة الكهربائية تتكشّف تدريجياً، فبعد أن كان السبب المعلن هو الارتفاع الشديد في حرارة الطقس، بما يوجِب تقليل ساعات عمل محطّات الكهرباء وتخفيف الأحمال عن المحوّلات وشبكات التوزيع القومية، أقرّت الحكومة بلسان رئيسها، مصطفى مدبولي، بأنّ ثمّة أسباباً أخرى وراء الأزمة، فقد اعترف بأن نقص الدولار هو السبب في وقف استيراد المازوت المستخدم في تشغيل محطّات الكهرباء. في مناقضة صريحة للرواية السابقة الصادرة عن وزير الكهرباء في الحكومة ذاتها، أنّ أسباباً تقنية وراء قطع الكهرباء عدّة مرّات يومياً، تخفيفاً للأحمال.
كانت تصريحات رئيس الحكومة المصرية كاشفة أبعاداً أوسع وأشمل من أزمة الكهرباء، تتعلّق بطريقة عمل الحكومة ومنطقها في التعامل مع المواطنين والتعاطي مع المشكلات والأزمات، المتوقعة والطارئة، فقد أعلن مدبولي أنّ الدولة توقعت مدى زمنياً لارتفاع درجات الحرارة لا يتجاوز ثلاثة أو أربعة أسابيع، لكنها فوجئت بالحرارة الشديدة مستمرّة أسابيع. وظني أنّ الرجل صادقٌ فيما قاله، ولعل هذا التوقع الخاطئ هو سبب التصدّي للأزمة خلال تلك الأسابيع بقدر من الاستهانة، والاكتفاء بقطْع مفاجئ ومتكرّر للطاقة الكهربائية في معظم أنحاء مصر، افتراضاً أن الأمر لن يطول ولا مبرّر لإجراءات خاصة أو حتى لمصارحة المصريين بواقع الحال. ومع تذمّر المواطنين من تبعات قطع الكهرباء على مختلف أساسيات الحياة، خصوصاً مياه الشرب والأجهزة الكهربائية التي أصبحت جوهرية لمواجهة الصيف شديد السخونة، بادرت حكومة مدبولي إلى تبرير الأمر بدلاً من تدبيره، أي تقديم ذريعة المصريين بدلاً من البحث عن حل فعلي للأزمة، فكان إعلان أنّ الحكومة فوجئت باستمرار ارتفاع الحرارة، كأنه لا توجد هيئات مختصّة بالأرصاد ومعنية بتوقّعات الطقس أعواماً، وليس أسابيع فقط. ورغم ذلك، أعلن مدبولي أنه اكتشف استمرار الطقس شديد الحرارة طوال شهر أغسطس/ آب المقبل. وذلك وفقاً لتوقّعات هيئة الأرصاد الجوية. ويعني ذلك صراحة أنّ الحكومة إما تكذب أو ليست على علم بالتغيرات المناخية في بلدها على مدى شهر واحد.
ثم أخيراً، اضطر مصطفى مدبولي للاعتراف بأن الأسباب التقنية والحفاظ على سلامة المحطات والمحولات ليست السبب في قطع الكهرباء، وأن السبب هو توقّف الدولة عن استيراد المازوت اللازم لتشغيل محطّات توليد الكهرباء، لتوفير 300 مليون دولار. وأمام استمرار الحرارة شديدة الارتفاع، ستضطرّ الدولة إلى استيراد المازوت مجدّداً، رغم أن ذلك المبلغ لم يكن مقدّراً في الموازنة العامة. ما يعني بدوره أن سياسات الحكومة المصرية وقراراتها ليست بعيدة المدى، ولا حتى متوسّطة الأجل. بل ليست الطوارئ والأزمات في حسبان هذه الحكومة، أو ربما ليست في نطاق قدراتها. وحتى إن صحّ هذا، فليس عذراً ولا يُعفيها من كامل المسؤولية أمام المواطن.
معضلات حكومة مدبولي كثيرة ومتشابكة، أكّدت أزمة الكهرباء جوانب كثيرة منها. أولها انعدام الشفافية، واللجوء سريعاً ومن دون مبرّر قوي إلى ذرائع مختلَقة. ورغم الاضطرار إلى الكشف عن الحقائق لاحقاً، تظلّ فجوة الثقة قائمة، فبالطبع لا يعلم أحد إن كانت تلك الحقائق كاملة أم منقوصة أم ليست حقائق أصلاً.
غياب الشفافية نتيجة مباشرة للإخفاق والعجز عن مواجهة المشكلات، وهذا بذاته بعد أساسي في اختلالات حكومة مصر ونواقصها، فهي مصابة بمرض عضال سماه الراحل يوسف إدريس "فقر الفكر" فلدى تلك الحكومة شلل عقلي يمنعها دائماً عن إيجاد الحلول الفعالة، إلا ما يكون على حساب المواطنين. سواء بشكل مباشر بالتحصيل من جيوبهم، أو بالخصم من راحتهم والتضييق على مقدراتهم المعيشية المحدودة أصلاً.