مشيخة الأزهر وموقفٌ ثابت تجاه فلسطين
أثار صمت مشيخة الأزهر إزاء اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، وقعتها الإمارات والبحرين والسودان، في أغسطس/ آب وأكتوبر/ تشرين الأول الماضيين، تساؤلاً حيال التزام الأزهر بالقضية الفلسطينية؛ إذ سارعت هيئاتٌ دينيةٌ أخرى، مثل اتحاد العلماء المسلمين ودار الإفتاء الليبية ومفتي عُمان، إلى معارضة هذه الاتفاقيات وإصدار بيانات وتصريحات تشجبها.
وفي الواقع، التزام مشيخة الأزهر تجاه فلسطين والقدس ثابت ومتجذر، على الرغم من حالة الصمت المؤقت تجاه اتفاقيات التطبيع؛ والذي قد يعزوه محللون إلى صلَة مشيخة الأزهر القوية بمجلس حكماء المسلمين في أبوظبي. ففي منتصف الشهر الجاري (نوفمبر/ تشرين الثاني)، أصدرت مشيخة الأزهر بيانًا استنكرت فيه عزم "الكيان الصهيوني" بناء وحداتٍ استيطانيةٍ جديدة قرب مدينة القدس، والتي تراها المشيخة استمرارًا لمسلسل اغتصاب أرض فلسطين، والعبث بهوية القدس الدينية. كما أكّد البيان دعم الأزهر الكامل للشعب الفلسطيني المظلوم، ووصف العنف الإسرائيلي بالإرهاب الصهيوني. وربما نرى في هذا البيان ردًا غير مباشر على اتفاقيات التطبيع العربية الأخيرة، إذ أكّد الأزهر ثبات موقفه بالدعم المستمر للشعب الفلسطيني، وثبات رؤيته باستخدام المصطلحات السياسية المنافية للتطبيع، أي استخدام الكيان الصهيوني، والإرهاب الصهيوني، عوضًا عن الاصطلاحات التطبيعية.
في منتصف نوفمبر الجاري، أصدرت مشيخة الأزهر بيانًا استنكرت فيه عزم "الكيان الصهيوني" بناء وحداتٍ استيطانيةٍ جديدة قرب القدس
والمراقب للقضايا التي تقع في قلب اهتمامات مشيخة الأزهر، سيجد أنّ قضية القدس، وفلسطين، تقع في صلب اهتماماتها. إذ يرى شيخ الأزهر، أحمد الطيب، أنّ قضية القدس تحديدًا دينية، فهي ثالث الحرمين الشريفين للمسلمين، والتي تُشَدّ إليها الرحال، وهي مقصد الحج للمسيحيين المشارقة. ففي عام 2011، وفي خِضمّ أحداث الثورات العربية، كان الطيب يصدر وينشر "وثيقة القدس" التي تضمنت حجاجًا تاريخيًا عن عروبة القدس، وحجاجًا قانونيًا ضد تهويدها، كما تضمنت تحذيرات للكيان الصهيوني من مشروعاته التهويدية والاستيطانية التي "تهدد كيان المنطقة"، كما رأى في "العدوان على معالم الحرم القدسي" خطًّا أحمر، وهذا العدوان في الوقت نفسه "مقدمة واعدة بطي صفحة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين".
المراقب للقضايا التي تقع في قلب اهتمامات مشيخة الأزهر سيجد أنّ قضية القدس، وفلسطين، تقع في صلب اهتماماتها
وكانت استجابة الأزهر قوية تجاه الحدث الذي فاجأ المنطقة العربية، حين تجرأ الرئيس الأميركي، ترامب، على إقرار نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس المحتلة، في ديسمبر/ كانون الأول 2017، واعتبار القدس عاصمة لـ"إسرائيل". حينها رفض الشيخ أحمد الطيب في خطابٍ رسميّ مقابلة نائب الرئيس الأميركي، مايكل بنس، في ذلك الوقت، احتجاجًا على هذا القرار، وقال في بيانٍ له: "كيف لي أن أجلس مع من منحوا ما لا يملكون لمن لا يستحقون. ويجب على الرئيس الأميركي التراجع فورًا عن هذا القرار الباطل شرعًا وقانونًا". ثمّ اجتمع مع هيئة كبار العلماء اجتماعًا طارئًا في الشهر نفسه، دعا فيه الحكومات العربية والإسلامية إلى اتخاذ كل الإجراءات السياسية والقانونية اللازمة لإبطال هذا القرار الجائر. بل كان الأزهر سباقًا إلى التحذير من محاولات التطبيع مع الكيان الصهيوني قبل انسحابه من الأراضي العربية المحتلة وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس.
رفض الشيخ أحمد الطيب في خطاب رسمي مقابلة نائب الرئيس الأميركي، مايكل بنس، وقال في بيانٍ: "كيف لي أن أجلس مع من منحوا ما لا يملكون لمن لا يستحقون"
ولم يمر شهر ونصف على ذلك القرار الأميركي، حتّى عقد الأزهر مؤتمرًا لنصرة القدس، يعلن فيه تأكيد مواقفه الثابتة تجاه فلسطين. وفي المؤتمر، قال وكيل الأزهر، عباس شومان، بكل وضوح: "لا خلاف على عدم جواز التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، فهو في نظر المسلمين، والمسيحيين أيضًا، عدوٌ تاريخيٌّ، مغتصبٌ لأرضنا العربية، ومنتهكٌ لمقدساتنا الإسلامية والمسيحية، وقد بلغت جرائمُه بحق رجالنا ونسائنا وأطفالنا المدى". وهنا يؤكد شومان الموقف الشرعي الثابت تجاه "التطبيع"، وأنّ عدم جوازه موطن "إجماع" بين علماء الأزهر. كما اقترح الشيخ أحمد الطيب في هذا المؤتمر عدّة اقتراحاتٍ لدعم القضية الفلسطينية في هذا المنعطف التاريخي، كان منها دعم المقدسيين في رباطهم وصمودهم معنويًا وماديًا، ومنها التوجيه الإعلامي لرفع مستوى الوعي العام بالقضية الفلسطينية، والتي يرى شيخ الأزهر أنّها هُمّشت في الإعلام في السنوات الأخيرة. وكان القرار الفاعل الذي اتخذه الأزهر هو تصميم مقرر دراسي يستهدف مليوني طالب مصري في المعاهد الأزهرية في المرحلة قبل الجامعية، يدرّس فيه كل ما يخص القضية الفلسطينية وتاريخها، هدفه "استبقاء جذوة قضية القدس في نفوس النشء والشباب، وترسيخًا لها في ضمائرهم". وقال شومان، في لهجة قوية حاسمة، "سنعلّم أبناءنا كل شيء". وقد دعا الأزهر مؤسسات التعليم الأخرى في سائر بلدان العالم إلى تبنّي مثل هذه المبادرة.
وبعد، موقف الأزهر تجاه القضية الفلسطينية ثابت متجذر، مبنيّ على الأدلة الشرعية الثابتة التي لا تقرّ غاصبًا على غصبه، ولا تقرّ تعاونًا أو تطبيعًا مع العدوّ الغاصب، مهما كانت أسبابه، ومبنيٌّ كذلك على الأدلة التاريخية التي تخبر بوضوح أنّ الاحتلال، مهما طال زمنه، فهو إلى زوال، كما قال شيخ الأزهر، أحمد الطيب، في وثيقة القدس، وفي كلمته في مؤتمر نصرة القدس.