مشكلة واشنطن في مقاربتها لا في سلوك إسرائيل

مشكلة واشنطن في مقاربتها لا في سلوك إسرائيل

22 مارس 2024
+ الخط -

تتحاشى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الإقرار بفشل مقاربتها في التعاطي مع إسرائيل، وحكومة بنيامين نتنياهو تحديداً، وهو الأمر الذي مكّن هذا الأخير من تحدّي واشنطن وإدارة ظَهْر الْمِجَنِّ لها. وعملياً، فإنَّ الرَّسَنَ الذي يفترض أن الولايات المتحدة تمسك به لتقييد إسرائيل حين تتطلب مصالحها العليا ذلك يبدو وكأنَّ زمامه قد أفلت من أيدي إدارة بايدن. إنه استمرارٌ لذلك الخلل الرهيب والمهين في العلاقة بين الدولة الراعية والدولة المَحْمِيَّةِ التي يفترض أن لها أدوراً وظيفية تؤدّيها خدمة للراعي، ليس من بينها، طبعاً، التحوّل إلى عبء استراتيجي عليه. وما تواتر الحديث عن احتقان، لم يعد مكتوماً، بين إدارة بايدن وبايدن نفسه، وبين حكومة نتنياهو وشخص الأخير، على خلفية الموقف من كيفية إدارة العدوان على قطاع غزّة (وليس خلافاً على العدوان بحد ذاته)، وجولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الحالية في المنطقة، وهي السادسة له منذ 7 أكتوبر، إلا دليل على أن واشنطن لا تحقق شيئاً مع تل أبيب إلا تعميقاً للإخفاقات والفشل والإهانات التي تلحق بها.

منذ اليوم الأول لشنِّ إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزّة تبنّت إدارة بايدن مقاربة قوامها الوقوف معها بشكل مطلق من دون سقوفٍ ولا شروط. ولم يلبث بايدن نفسُه أن سافر إلى تل أبيب معانقاً نتنياهو "عناق الدُبِّ"، كما يوصَف أميركياً، ومحيداً الخلافات السابقة بينهما. حينها، عللَّت مصادر في الإدارة الأميركية حسابات بايدن من وراء تبنّي نتنياهو ودعمه أنها تندرج تحت لافتة بناء ومراكمة "رأس مالٍ سياسي" يمكن صرفُه عند حلول أوانه. لكن نتنياهو ليس محتالاً وماكراً، كما يوصف هنا في واشنطن، فحسب، بل هو أيضاً جاحدٌ للفضل وناكرٌ للجميل. لم تمض أسابيع قليلة، حتى بدأت إدارة بايدن تتصرّف وكأنها فوجئت بسلوك نتنياهو الصلف والوقح الذي لا يلقي بالاً لمصالح الولايات المتحدة، إقليمياً ودولياً، ولا حتى لحسابات بايدن ومصالحه السياسية والانتخابية، وهو الذي احتضنه وساهم في تحصين موقعه رئيساً للوزراء بعد عملية طوفان الأقصى التي زعزعت أركان حكومته وأركان دولته.

مع مضيِّ الوقت، والتصاعد الهائل في الخسائر البشرية والعمرانية في قطاع غزّة، التي تتناسب طردياً مع تصاعد الكلف على الولايات المتحدة، استراتيجياً وأخلاقياً، وكذلك على بايدن نفسه وعلى الحزب الديمقراطي، سياسياً وانتخابياً، بدأ "الاحتقان المكتوم" يتحوّل إلى "احتقان علنيّ". ولكن، حتى هذا لم ينجح في تليين عناد نتنياهو، وهو ما وَلَّدَ انطباعاً، أقرب إلى الحقيقة، أن إدارة بايدن تحولت إلى مُتَسَوِّلٍ تستجدي إسرائيل، رغم أنها قادرةٌ على أن تفرض شروطها عليها لو امتلكت الجرأة السياسية والأخلاقية.

واشنطن لا تحقق شيئاً مع تل أبيب إلا تعميقاً للإخفاقات والفشل والإهانات التي تلحق بها

هنا تحديداً تكمن معضلة مقاربة إدارة بايدن وفشلها في التعامل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته المتطرفة. للتعبير عن استيائها من نتنياهو تبنّت الإدارة منطق الضغوط التدريجية المتصاعدة عليه لتغيير سلوكه وسلوك حكومته، بدل أن تغيّر هي مقاربتها وسلوكها نحو الحكومة الإسرائيلية. نحت الإدارة الأميركية ابتداءً إلى تسريب أخبار عن "إحباط" بايدن من نتنياهو وسياساته المتمحورة حول مصالحه الشخصية بالدرجة الأولى، والتي وصفتها بأنها تضرّ إسرائيل قبل أميركا. ثمَّ، تصاعدت حدَّة التسريبات لتنقل الألفاظ المقذعة التي يطلقها بايدن ضد نتنياهو. ثمَّ لم يلبث بايدن، منذ شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أن بدأ يصرّح علناً عن استيائه من نتنياهو، وذلك عندما قال أمام متبرّعين يهود كبارٍ لحملته الانتخابية إن إسرائيل "تخسر الدعم الدولي"، وإن على نتنياهو أن "يتغيّر"، لكن ذلك لا يمكن أن يحدُث في ظل ارتهانه لائتلاف حكومي متطرّف.

وعلى المنوال نفسه، تصاعدت حدّة خطاب بلينكن ضد إسرائيل، وبدأت لغة "الخطوط الحمراء" تبرز في تصريحاته وتصريحات مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، وصولاً إلى بايدن نفسه الذي حذّر قبل أقل من أسبوعين من أن اجتياحاً إٍسرائيلياً لرفح سيكون بمثابة خط أحمر بالنسبة إليه، لكنه لم يلبث أن ناقض نفسه في الجملة نفسها، حين قال إن عدم احترام إسرائيل خطّه الأحمر ذاك لن تترتب عليه أيُّ تداعيات تتعلق بالدعم الأميركي لها. وعندما وجدت إدارة بايدن أن ذلك كله لا يعمل لجأت إلى أرفع مسؤول يهودي صهيوني أميركي، زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي تشاك شومر، الذي ألقى خطاباً في المجلس قبل أيام (أيّده بايدن لاحقاً)، اعتبر فيه نتنياهو "عقبة" في طريق السلام، ودعا لإجراء انتخابات في إسرائيل تأتي بحكومةٍ جديدة، وهو ما ردّ عليه حزب الليكود بتحدٍّ واضح وصريح: "إسرائيل ليست جمهورية موز بل ديمقراطية مستقلة وأبيَّة، وينهج نتنياهو سياسة حازمة تدعمها أغلبية كبيرة من الشعب. خلافاً لتصريحات شومر، يؤيّد الجمهور الإسرائيلي انتصاراً كاملاً على حماس، ويرفض أي إملاء دولي لإقامة دولة إرهابية فلسطينية، ويعارض عودة السلطة الفلسطينية إلى غزّة".

منذ اليوم الأول لشنِّ إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزّة تبنّت إدارة بايدن مقاربة قوامها الوقوف معها بشكل مطلق من دون سقوفٍ ولا شروط

المفارقة أن نتنياهو الذي اعتبر تصريحات شومر "غير لائقة"، وأن "من غير المناسب أن نتوجّه إلى ديمقراطية شقيقة ونحاول استبدال القيادة المنتخبة فيها"، لم يلبث هو نفسُه أن قبل دعوة من الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأميركي ليلتقي بهم عبر تقنية الفيديو، وهو ما تمَّ فعلاً يوم الأربعاء الماضي، ووظفه الجمهوريون سياسياً لشنِّ هجومٍ على بايدن وإدارته وعلى الديمقراطيين متهمين إياهم بالتخلّي عن إسرائيل. طبعاً، هذه ليست أول مرّة يدسُّ فيها نتنياهو أنفه في شؤون الدولة "الديمقراطية الشقيقة" الأميركية، حيث سبق له أن قبل دعوة الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب، عام 2015، لإلقاء خطابٍ في الكونغرس ضد الاتفاق النووي الذي وقعته الولايات المتحدة ودول أخرى مع إيران حينها، وذلك في تحدٍّ واضحٍ ومباشرٍ لإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما. ليس هذا فحسب، حيث سبق لنتنياهو، قبل ذلك، أن دسَّ أنفه في انتخابات "الديمقراطية الشقيقة" الأميركية، عام 2012، عندما سعى إلى "استبدال القيادة المنتخبة فيها" عبر دعمه المرشّح الرئاسي الجمهوري، حينئذ، ميت رومني، ضد أوباما.

لقد فشل ثلاثة رؤساء ديمقراطيين أميركيين (بيل كلينتون، أوباما، وبايدن حتى اللحظة)، طيلة 28 عاماً، في تغيير سلوك نتنياهو، ولا يبدو أن بايدن سينجح في ما فشل فيه سابقوه ما لم تتغيّر المقاربة الأميركية نفسها وسلوكها نحو إسرائيل بشكل عام، وليس فقط نحو نتنياهو وحكومته. ما دام أن واشنطن عاجزة أو غير راغبة في وضع دعمها المطلق والأعمى لإسرائيل على المحكّ، بما في ذلك وقف تصدير الأسلحة إليها، ورفع الحصانة الديبلوماسية عنها في مجلس الأمن، وتقديم مصالح الولايات المتحدة أولاً، فإنه لن يكون هناك أي تغيير في السلوك الإسرائيلي. هذه هي خبرة قرابة 76 عاماً من العلاقة المختلّة بين الطرفين، ولا يبدو أنها ستتغيّر في المدى المنظور ما دام أن مصير "الخطوط الحمراء" الأميركية مصير خطّ بايدن الأحمر يمحوه اللسان نفسه الذي نطق به.