ليندسي غراهام إذ يتبنّى "عقيدة الضاحية"
تسارع السفارة الإسرائيلية لدى دولة الفاتيكان إلى التنديد بكلمةٍ ألقتها الحائزة جائزة نوبل للسلام توكّل كرمان، وتسارع وكالة رويترز للأنباء إلى ما كان يُسمّى في حقبة الصحافة الورقية الذهبية "تطيير برقية إخبارية" عن بيان السفارة، الذي وَصَفَ خطاب كرمان بالأكاذيب، وبأنّه معادٍ للسامية (!)، وأُلقي "من دون أن يشعر أحدٌ بالواجب الأخلاقي للتدخّل ووقف هذا العار".
من لم يطّلع على تقرير "رويترز" ربما يخامره شكّ بأنّ الحائزة جائزة نوبل قد دعت إلى قصف تل أبيب بقنابل نووية، أو رمي المواليد الإسرائيليين، الذين قد يصدُف أن يكونوا في حضّانات المستشفيات، في البحر، أو إجبارهم وأهاليهم على الخروج بالقوّة من المستشفى، حتّى لو قتلوا لانقطاع الخدمة الطبية عنهم. كلّ ما قالته كرمان يتكرّر مئات المرّات يومياً، في وصف الإبادة غير الرحيمة التي يتعرّض لها الغزّيون منذ أزيد من سبعة أشهر، وكيف أنّ "العالم يقف صامتاً أمام هذه الإبادة"، ولذلك، حظي بتصفيق حارّ ومُتوقّعٍ من حضورٍ رفيع المستوى، تجمّع في ساحة كاتدرائية القدّيس بطرس في الفاتيكان، ذلك أنّ ثمّة شبه إجماع في العالم كلّه على ما تُوصف به إسرائيل في خطاب كرمان وخطابات الآلاف سواها، فأين الصدمة إذاً؟ وأين العار الذي لحق بالحضور الذي صفّق، وخيّب أمل السفارة الإسرائيلية، فلم يشعر واحدٌ من هؤلاء بواجب أخلاقي يدفعه إلى التدخّل ووقفه "العار"؟... العار في مكان آخر، ويمكن أن يوصف به بنيامين نتنياهو ووزراؤه، بل مشرّعون أميركيون أيضاً، وليس كرمان بالتأكيد، وجديد هؤلاء أخيراً عضو الكونغرس، الذي يحظى باستقبالات دافئة حيثما حلّ في منطقتنا، ليندسي غراهام، الذي قارن ضمناً بين هجمات اليابانيين على بيرل هاربر (1941)، وهجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، على مستوطنات غلاف غزّة، متسائلاً، في مقابلة تلفزيونية، لماذا كان مقبولاً من الولايات المتّحدة إسقاط قنبلتيْن نوويتيْن على هيروشيما وناغازاكي، بينما ثمّة جدل حول الردّ الإسرائيلي، والجواب لدى غراهام أنّ عليكِ، يا إسرائيل، أن تفعلي ما عليك فعله للبقاء.
هل صدر بيان واحد عن الكونغرس الأميركي، بغرفتيْه ولجانه، يستنكر الدعوة شبه المُعلنة التي أطلقها غراهام إلى إسرائيل باللجوء إلى الأسلحة النووية في غزّة؟ هل ثمّة ردّة فعل حقيقية، غاضبة، صدرت عن أيٍ من السفارات العربية على الأقلّ، دعك من جامعة الدول العربية، يطالب غراهام أو مجلس الشيوخ الأميركي بسحب تصريحاته هذه أو الاعتذار عنها؟ باستثناء بيان حركة حماس المندّد بالتصريحات لم نقرأ بياناً واحداً لأي دولة يطالب الخارجية الأميركية بالنأي بنفسها، وبالمؤسّسات الأميركية، عن مثل هذه الدعوات الشائنة، وحتّى وكالة رويترز، التي سارعت إلى تطيير برقية إخبارية تتضمّن ردّ السفارة الإسرائيلية لدى الفاتيكان، لم تجد ضرورة من أيّ نوع أو درجةٍ لتضمين أيّ تقرير عن ردّة فعل "حماس" جملةً واحدةً تُفيد بأنّها حاولت الحصول على تعليقٍ من رئيس مجلس الشيوخ أو الخارجية الأميركييْن على تصريحات غراهام فتعذّر عليها ذلك. ألا توجد مدوّنة أخلاقية، من أيّ نوع، يحتكم إليها المُشرّعون الأميركيون؟ ألا توجد لائحة عقوباتٍ تتضمّن التقريع اللفظي على الأقلّ؟... بعد أيام قليلة فقط، من هجمات السابع من أكتوبر (2023)، سارع غراهام لوصف ما حدَث بالحرب الدينية، ودعا إسرائيل إلى تسوية المكان (غزّة) بالأرض، وبعد نحو شهر، سُئِل عما إذا كان هناك حدّ يمكن أن تقبل به واشنطن (وليس إسرائيل)، لعدد الضحايا في غزّة، فأجاب بالنفي القاطع.
في عام 2008، بعد حرب شنّتها إسرائيل على لبنان (2006)، أرسى غادي آيزنكوت، وكان قائداً للجبهة الإسرائيلية في الشمال، ما أصبح يُعرف بعقيدة أو استراتيجية الضاحية، بعد أن نفّذها فعلياً خلال الحرب على لبنان، وتقوم على تسوية الأماكن بالأرض، وعدم الاكتفاء بالأهداف العسكرية، بل ضرب الحواضن الشعبية أيضاً، وتدميرها، أيّ تحويل كلّ شخص وأيّ مكان في أرض "العدوّ" إلى هدفٍ مُعلن، من دون تمييز بين ما هو مدني وعسكري، إذ لا مَدنيَّ في عقيدة الضاحية. ومن المُضحك المُبكي أن يتراجع آيزنكوت، وهو حالياً عضو في مجلس الحرب، عن عقيدته، بينما يتبنّاها ويتوحّش ليندسي غراهام عضو مجلس الشيوخ الأميركي، الذي تبعد بلادُه آلاف الأميال عن قطاع غزّة، ولم يسبق لها أن تعرّضت لهجوم من أيّ نوع من حركة حماس، أو سواها من فصائل فلسطينية.