لماذا تعدّ معركة طوفان الأقصى منعطفاً تاريخياً؟
كيفما حدث طوفان الأقصى بوصفه معركة كبرى مثّل في حقيقة الأمر انتفاضة ثالثة، وأي انتفاضة، سيكون لها تأثير كبير وخطير؟ وهنا نؤكّد لماذا اعتبرنا هذه الانتفاضات الفلسطينية المتتالية منعطفا تاريخيا، رغم أنها قد تنحصر في مساحة جغرافية محدودة. وفي الحقيقة، لا تُقاس مسألة الاتّساع الجغرافي هنا بالبدايات، إنما بالنهايات من حيث التأثير الواسع الذي تتركه على العالم كله. استدعت هذه الانتفاضة الثالثة، في حقيقة الأمر ومن غير تعسّف، حربا عالمية ثالثة، أقول ذلك وأنا أعي جيدا ماهية المفاهيم وخطورتها. نعم، اندلعت حربٌ عالميةٌ ثالثة، نلحظ إرهاصاتها من غير تهويل أو تهوين، ذلك أن هناك من يحصُر هذه الحرب في تورّط الكبار في مثلها، وهذا ليس مفهوما صحيحا للحرب العالمية، ولكن دلالة أن هذه الحرب عالمية أم لا هو في اتساع تأثيرها، وفي المشروع الذي يمكن أن تقف عليه. ومن هنا، رغم أن عملية طوفان الأقصى كانت في مساحة محدودة، إلا أن اتّساع تأثيرها أمرٌ يؤكّد كيف أن هذا الحدث الصغير يمكن أن يكون له تأثير كبير. رغم ذلك، ليس هذا الحدث صغيرا، ولكنه كبير بحجم تأثيره في استهداف عدوّ صهيوني يتحدّى المجتمع الدولي، ويضرب عرض الحائط بقراراته وقوانينه، متّكئا على الفيتو الأميركي، ومن ثم، يرتكز الأمر الذي يتعلق بهذا المنعطف التاريخي في خمس نقاط:
الأمر الأول: المقاومة التي صارت تواجه المشروع الصهيوني الذي يدعمه من وراء ستار أو بشكل مباشر مشروع غربي، فبين المشروعين، الغربي الصهيوني والنهضوي، علاقة لا ينبغي بأي حال إنكارها، هذا ما يشير إليه أن جهاز المقاومة في عملياته المختلفة، وفي كل ما يقوم به، ظلّ جرس الإنذار للأمة التي تستهدف هذا المشروع الغربي الصهيوني، وظلّ يدق هذا الجرس المرّة تلو المرّة في معاركه، ليذكّر بالمشروعين الغربي والصهيوني، والتأثير المعيق حقيقة مشروع نهضوي حقيقي يحفّز الأمة مشروعا نابعا لا تابعا، ومن ثم شكّلت الانتفاضات المختلفة عملا متراكما مهمّا، لتشكّل من بعد ذلك أهم منعطف تاريخي يملك الديمومة، ويؤكّد أن المقاومة لابد أن تدوم حتى يتحقّق كامل تحرير الأرض الفلسطينية، في هذا السياق، يجب أن نضع المقاومة في مكانها؛ المقاومة بين المشروعين الغربي والصهيوني من جانب والنهضوي من جانب آخر، إذا ما شبّهنا الأمة بجهازٍ ما فإنها تحتاج جهاز المقاومة بما له من دور يحميها من الاحتراق، وقبل ذلك يدفعها إلى العمل، الأمة بلا مقاومة قابلة للاحتراق تماما، هذه المشابهة بين الأجهزة الكهربائية والأمة تتمثل في جهاز المقاومة في أي آلة هو الذي يمرّر الطاقة إليها في أحواله الاعتيادية، ويحمي الجهاز بكليّته عند التيار العالي. هكذا تقول قوانين الفيزياء الكهربائية.
تعبّر عملية طوفان الأقصى مرّة بعد مرّة، وبما استدعت من أمور وشكوك وذاكرة تاريخية وحضارية، عن الوجود الحي في الأمة
الأمر الثاني؛ إن أحداث الأمة الكاشفة وتحدّياتها وأزماتها، والتي جعلت يوما من القضية الفلسطينية أساسا لم تكن في ذلك مخطئة، بل مصيبة. ولمثل هذا التحوّل الذي نراه في بعض ممن يمثلون الأمة في قادتها الرسميين، وما هم بقادة، الذين قاموا بالتطبيع مع هذا الكيان الصهيوني، وصاروا تبعا له في سياساته، حتى لو جاءوا في كل مرّة، وعبّروا عن مخاوف ومخاطر، وعن مطالباتٍ وبيانات شجبٍ بأقسى لغة وأشد الألفاظ. إذن، نحن أمام فرز حقيقي، لحظة كاشفة، لحظة فارقة، لحظة مقاومة، لحظة بانية، هذه اللحظات على تدرجها لابدّ وأن نلتقط العبرة في الحدث في خبرته وفي فكرته الأساسية التي يقوم عليها في النهوض. حينما تحرس النظم العربية الرسمية، وما تسمّى دول الطوق، الحدود، ويحرس الغرب التخلف في أوطاننا؛ فتكتمل للأسف الشديد حلقات هذا المشروع الدنيء الذي يستهدف الأمة في مقتل، ويجعل من إسرائيل بما تشكّله من دور وظيفي إنما تشكّل اليد الباطشة في المنطقة لحراسة تخلفها، وعدم نهوضها، حينما نؤكّد ذلك بشكل محدّد ليس هذا ربطا تعسفيا أو مبالغا فيه، أن معركة طوفان الأقصى قد فضحت ذلك الارتباط بين المشروعين، وما يربطهما من حبل سرّي لا ينقطع.
يتعلق الأمر الثالث بالمشروع الاستيطاني في ظل مشروع أكبر، وهو مشروع يهودية الدولة، إنما يؤكّد على عناصر كثيرة في هذا المقام، أهمّها أن مشروع يهودية الدولة الذي يقوم في إطار عنصري في قيام دولة لليهود كان ضمن عناصر ذلك المشروع الغربي منذ مفتتح القرن الماضي، بعدما كانت المشكلة / المسألة اليهودية تشكّل صداعا في كيان تلك الحضارة الغربية، ومن ثم تفتّق ذهن ذلك المشروع عن إنشاء هذه الأداة الوظيفية "البلطجي الصهيوني الصغير" الذي يُمَد ويُدعم بكل ما يحتاج إليه من أموال ومن أسلحة ومن دعم بشري، وهو الأخطر في حقيقة الاستيطان. لقد كشفت معركة طوفان الأقصى عن أمور خطيرة، أن هذه الدول الغربية التي تكالبت من كل مكان، وصارت تدعم هذه الحرب الإجرامية الصهيونية الممتدّة منذ أسابيع ضد الأطفال والنساء والشيوخ، لتعبّر بذلك عن قضية محورية، وهي الحالة الاستيطانية. وفي هذا المقام، نلقي الضوء عما كشفت عنه طوفان الأقصى في غلاف غزّة عن الحجم الكبير للمستوطنات، واليهود الذين يحملون الجنسيات المزدوجة، وقد تم جلبُهم من تلك البلاد وأوجدوا لهم كل سبل العيش الرغيد ليستوطنوا هذه الأرض، ومع أول ساعة من الاشتباك المسلّح من المقاومة هبّت الدول الغربية، وسيّرت الأساطيل العسكرية البحرية والجوية لإنقاذ رعاياها في الكيان الاستيطاني، أو إجلائهم إذا لزم الأمر؛ ما الذي أتى بهم إلى غلاف غزّة؟.
مفهوم العالم الإسلامي يرفض أن يكون هناك كيان صهيوني، ولكن الشرق الأوسط هو الذي يقبل بتسلل هذا الكيان وتوطينه
يؤكّد الأمر الرابع على مسألة خطيرة ترتبط بالأمور الثلاثة الماضية، وهي تتعلق بثلاثة أنواع من الترانسفير. الأول ما تعتبره إسرائيل ترانسفيرا إيجابيا، حينما يأتي هؤلاء إلى إسرائيل يهاجرون ويستوطنون من كل مكان في العالم وفي المعمورة. أما الثاني فهو الذي تقوم به في إطار عنصريتها وفرضها يهودية الدولة، وارتباطها بهذا العنصر على التحديد إنما يؤكّد على عملية تهجير لأصحاب الأرض الأصليين من عرب فلسطين في الضفة الغربية وفي قطاع غزّة وفي مدن الداخل من عرب 48، كل هؤلاء معني بهم أن يكونوا في ترانسفير يطهر الدولة من أي عربي ضمن عملية تطهير عرقي كبرى لا تمارس هكذا بالكلية ولكنها تمارس بالقطعة، النوع الثالث أن يحدث هذا الترانسفير الاستيطاني بتوطين هؤلاء في دول عربية أخرى اقترحها من زمن وصارت بندا في صفقة القرن سواء بتهجيرهم الي الأردن أو إلى مصر.
الأمر الخامس، حاول هذا المشروع الغربي أن يقوم بآلياتٍ وأدواتٍ على رأسها التطبيع، نعم التطبيع، تطبيع وجود إسرائيل وقبولها إما عنوة وإما اختيارا لهذا الكيان ومن هنا كان دائما تفكيرنا بما أداه إلينا أستاذنا حامد ربيع وكذلك أستاذتنا منى أبو الفضل رحمهما الله حينما قالا عن أمر شديد الأهمية ألا وهو خطورة مفهوم الشرق الأوسط، ذلك أن مفهوم العالم العربي يرفض ويستبعد الكيان الصهيوني، وأن مفهوم العالم الإسلامي يرفض أن يكون هناك كيان صهيوني، ولكن الشرق الأوسط هو الذي يقبل بتسلل هذا الكيان وتوطينه، ومن ثم كانت الأدوات التطبيعية من أهم الأدوات التي يرعاها الغرب بشكل مباشر في هذا المقام؛ فيحاول من بعد ترامب أن يجعل من هذه وظيفته في أن يستخدم سيف المعزّ وذهبه مع هؤلاء الرسميين في النظم العربية. وفي المقابل، صارت "طوفان الأقصى" تعرّي هؤلاء جميعا، وتعرّي هذه المشاريع التي تراد بالمنطقة، وتعري كيف أن هؤلاء يجتمعون لشرعنة وجود هذا الكيان الغاصب في جسد الأمة، ذلك السرطان الذي يسري فيها، فيؤدّي إلى فنائها من غير مقاومة في هذا المقام. ولكن "طوفان الأقصى" تُثبت، مرّة بعد مرّة، وبما استدعت من أمور وشكوك وذاكرة تاريخية وحضارية، لتعبّر بذلك عن الوجود الحي في الأمة والوجود الحي الحاضن لها من الشعوب العربية.