لبنان في محنة

لبنان في محنة

19 مايو 2023
+ الخط -

المجتمع اللبناني في روايات من اضطراب شديد، جرّاء الاختلاط بين الاستحقاقات السياسية والقضائية، محليا وخارجيا، ووسط تفاقم الملابسات، ومنها رواية "ليلة القبض على حاكم البنك المركزي رياض سلامة"، وتوالي ضخّ اتهامات تبييض أموال تطول قيادات ومؤسّسات في القطاع المالي، وتصلح عرضا مسرحيا لقصص خيالية. أن يمتنع الأخير عن المثول أمام القضاء الفرنسي بحجّة عدم التبلغ من القوى الأمنية، مزحة سمجة، تعني مواجهة أخرى مع تباينات المشهد اللبناني، ومخاوف من التزامن الاستثنائي للضغوط العامة والمالية التي تدفع إلى حالة من "عدم اليقين،" وانفلات الأوضاع، والتضييق وبشكل مؤلم على القنوات المالية، وانقطاع التواصل بين لبنان والخارج، في غياب أي سياسة نقدية أو اقتصادية للحكومة. سمعة سلامة (سبق أن طاردته القاضية غادة عون في لبنان) من سمعة لبنان، وكذلك الدعاوى بحقّ المصارف ومسؤوليها، لجهة قيادة البلد إلى الانهيار، وأن الدولة استعملت الجزء الأكبر من ودائع المودعين الموظفة في البنك المركزي خلافا للقانون. مضت ثلاث سنوات، ولبنان السياسي والمالي لا يعير أذنا لكل الضغوط الخارجية، وحتى للإهانات. لن يذهب البلد إلى أي مكان، حتى إذا غادر سلامة موقعه، والوضع متروك أصلا وليس ممسوكا، لكنها رسالة مفجعة لحاكم المصرف المركزي أمام القاضية الفرنسية أود بوروزي، بغضّ النظر عن صحة الاتهامات المساقة ضده وضد شقيقه رجا سلامة عن اختلاس مئات الملايين من الدولارات، وغسل بعض العائدات من الخارج، في تحقيق دولي شاركت فيه خمس دول أوروبية على الأقل. تجتمع الروايات في ترابط داخلي، من التمرّد على النظم والقوانين، لتبدأ معها حلقة مفرغة من الانهيارات، وانفجار قضايا مخفية تماما.

نموذج مصرف لبنان لا يمنح الائتمان، ولا يوحي بالشفافية، ويؤدي إلى انحراف في عمل المؤسسات، والانتقال من أزمة إلى أخرى، مع عدم وجود رئيس جمهورية، ووسط تضخّم مالي يشكل تهديدا كبيرا، وهو الأخطر. مجتمع مزقته الانقسامات، وصراع التدخل السياسي. وفي وقت سابق، اندلعت التوترات حول التغيير، عقب انفجار ميناء بيروت أغسطس/ آب 2020. وبعد أن استأنف قاضي التحقيق، طارق البيطار، اتهاماتٍ جديدةٍ ضد شخصياتٍ لبنانية باررزة. قرار رياض سلامة بالاختباء لا يخلو من السخرية الحداثية، ولا تنحصر بالموقع نفسه لمهندس سياساتٍ ماليةٍ، ولشخصٍ مفرطٍ في العصرنة، وفي استقطاب الجوائز العالمية، في تداعيات روائية أخرى لجهات أساسية بارزة تتماهى مع شخصه، ويصير لبنان كله مرتعا للشك.

لبنان في محنة الانزلاق وراء متاهات، ومن دون إبداء أحد الرغبة في المحافظة على رصيديه المادي والمعنوي

كان يمكن للتحقيق مع رياض سلامة أن يكون مفيدا لإدراك الكثير من العالم حوله الذي يبدو غامضا، ويدلّ على علامات الثقة التي يضعف الاقتصاد من دونها، ومدخلا إلى الحوكمة الرشيدة. الخط الأحمر الذي يربط بين كل الروايات في لبنان، بخلاف ما يجب أن يكون عليه المجتمع الجيد، لجهة الشلّل في قابلية الحياة السياسية والاجتماعية والمالية والبيئية، وفي القدرة على إحداث تغييرات يجب إجراؤها من أجل تحسن القضايا. لبنان في محنة الانزلاق وراء متاهات، ومن دون إبداء أحد الرغبة في المحافظة على رصيديه المادي والمعنوي.

فيما يتسلّى أفرقاء الداخل في لعبة الانتظارات، وحصر الاهتمام باسم المرشّح الرئاسي المثير للجدل سليمان فرنجية، والكل يحصر اهتماماته بما يتقاطع مع مصالحه. لبنان في رهاناتٍ مغلقة على دمج حزب الله المسلح في اللعبة الوطنية اللبنانية (اللبننة) المطلوبة لانتخاب رئيس للجهورية، ما يعتبره لبنانيون كثيرون من صنع الخارج، ويفيد الحزب أنه يمنح قدرا كافيا من الحوار لإقناع شركائه اللبنانيين باسم مرشّحه، والتعبير عن رغبته الانخراط في ساحة سياسية تعدّدية!. ثم تأني عودة القضية السورية إلى قلب الأزمة بعد انسحابها منذ العام 2005، ومن بوابة أزمة اللاجئين السوريين في غياب آلية توازن داخلية وخارجية، تضمن عودتهم الآمنة والطوعية. ما يشكّل رزمةً جديدةً من التعقيدات الأكثر اضطرابا، مع حكم لا يحرّك ساكنا، ومعارضة أكثر تردّدا ولامبالاة. لا أحد يملك قواعد رفع هذا اللبسّ السياسي الذي يحاصر اللبنانيين في صرف يومياتهم، أمام هذا القدر من اتساع الأزمات، ومن دون نظام حكم قياسي قانوني، يمتلك لغة تعبير عن نظرةٍ مختلفة، ومأساة لا مقابل لها جعلت ثلاثة أرباع اللبنانيين فقراء وجوعى. صارت حلول العيش في لبنان مستعصية، وارتفعت معدّلات الاكتئاب مع انسداد الآفاق، على نحو كان مغايرا خلال الحرب الأهلية 1975. وتتزايد الأمور اندفاعا نحو الغليان والفوضى والتفتتّ الاجتماعي (ما ترصده آخر نشرة للبنك الدولي في ستة مؤشّرات من 214 بلدا مقارنة مع لبنان): 95% من الحكومات فعّالة في العالم أكثر من الحكومة اللبنانية، 85% تطبق القوانين، 81% محفّزة لعمل القطاع الخاص، 70% من حكومات العالم لديها نظام محاسبة بخلاف لبنان، 92% منها تتمتّع باستقرار سياسي أكثر، 70% من بلدان العام تخضع لنظام قضائي مستقل.

نموذج مصرف لبنان لا يمنح الائتمان، ولا يوحي بالشفافية، ويؤدي إلى انحراف في عمل المؤسّسات، والانتقال من أزمة إلى أخرى

فشلُ نظام ما بعد الحرب امتدادٌ لواقع العامين 1975و1991، وتتّجه مجموعة العمل المالي الدولية (فافت) إلى وضعه في القائمة السوداء ملاذا لتبيض الأموال وتمويل الإرهاب وتهريب المخدّرات. لبنان بحاجة إلى مجلس إدارة جديد، وإلا فقد تؤدّي الأمور إلى عودة شبح الحرب الأهلية بعد ست سنوات من عهدٍ نجح في تحريف الدستور ووضع المؤسّسات خارج فرض الإرادة العامة. صار لبنان عنوانا ليس جاذبا لأي استثمار خارجي، ما خلا هوامش متفائلة، إذ تدخل قطر شريكا أساسيا في المشروع السياسي للإنقاذ، وفي تحالف شركات التنقيب عن الغاز والنفط. مع ذلك، اللبنانيون في انتظار ترياق سيأتي من التزامات إقليمية ودولية، لكن الأموال لن تتدفق من الدول الخليجية بالطريقة التقليدية من دون استثمار استراتيجي، والحد الأدنى من الإصلاح. لن يقدم المعنيون فيها على أي قرار من دون معرفة العائد الجيوسياسي، والاستقرار بين مكوّنات الاجتماع السياسي اللبناني، وعائلاته التاريخية. أصبحت معركة اللبنايين مع أنفسهم حالة ميؤوسا منها، بين مجموعات أصابها خلل في الإدراك الواقعي، والعجز عن صناعة قرارات، فالطوائف اللبنانية ليست مجتمعات مترابطة ، لديها "الحسّ المشترك"، مجرّد أسس محتملة، متكرّرة للنشاط المجتمعي، ما ينتج صراعاتٍ مع غياب المصالح المتوافقة لبنانيا، وخارج الإرث الاخلاقي لمؤسّسات دستورية صارت تعمل خلافا لنظرية الحالة الطبيعية.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.