عن مسيحيي لبنان والفاتيكان
مرّ زمن طويل، نسبياً، منذ أن كان لبنان ومسيحيوه جزءاً من يوم فاتيكانيّ طويل، لكنه زمن قصير في المقياس التاريخي بين 1990، تاريخ انتهاء الحرب اللبنانية التي اندلعت عام 1975، والعام الحالي. وطوال الأعوام الـ31، حضر الفاتيكان في قلب الأحداث اللبنانية، السياسية خصوصاً، وتأثيراتها على المسيحيين. في البداية، سعى البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى صياغة علاقةٍ مسيحيةٍ مع المحيطين، الإسلامي والإقليمي، في لبنان والمنطقة، مبنيةٍ على تفعيل صيغة "العيش المشترك" وتطبيقها فعلاً، لا الاكتفاء بالعناوين العريضة فيها. وهو ما نصّ عليه "الإرشاد الرسولي" المولود من "سينودس الأساقفة من أجل لبنان"، الذي طرحه البابا في أثناء زيارته بيروت في عام 1997. وفي 2010، طُرحت وثيقة أخرى منبثقة من "سينودس كنائس الشرق الأوسط" بقيادة البابا المستقيل بينيديكتوس السادس عشر، لم تخرُج عن أُطر "العيش المشترك". وأول من أمس الخميس، تطرّق البابا فرنسيس في "يوم التأمل والصلاة من أجل لبنان"، إلى ضرورة أن يبقى لبنان "واحة أخوّةٍ تلتقي فيها الأديان والطوائف المختلفة، وتعيش فيها معاً جماعاتٌ مختلفة، وتفضّل الخير العام على المصالح الخاصة".
أظهر الفاتيكان، في تلك المحطات الثلاث، افتراقاً عن "المزاج" المسيحي العام في لبنان، وهو مزاجٌ مصنوعٌ من انعزاليةٍ يكرّسها النظام اللبناني لكل الطوائف، على حساب مدنية الحكم والسلطة من جهة، ومن الهزيمة العسكرية ـ السياسية للمسيحيين في حرب لبنان من جهة أخرى. لم يدعُ الفاتيكان إلى الهجرة، ولا إلى امتشاق السلاح، ولا الحرب، ولا إلى تقبّل الأمر الواقع، بل فقط إلى التفاعل مع المحيط الواسع. وهي عملياً ليست حربا خاسرة للمسيحيين في لبنان، إذا خرج من يفكّر فيها بسياق أبعد من مجرّد اللحظوية السياسية، المتمحورة بـ"حقوق المسيحيين". طوال العقود الثلاثة الماضية، توجّه الفاتيكان إلى المسيحيين بإشارات عدة، تدعوهم إلى الخروج من مبدأ "التفكير الأقلوي" أو "الخوف على المصير"، لأنه سببٌ للفناء الذاتي، علموا ذلك أم لم يعلموا. الانعزالية لا تحمي.
في المقابل، الدفع بما يُسمّى "حلف الأقليات"، في لبنان أو الشرق، يُعدّ سبباً رئيسياً في القضاء على هذه "الأقليات"، لأن التاريخ لا يتوقّف، في حال استمرت قواعد اللعبة على ما هي عليه. والخروج من هذه القواعد يتطلّب خطوات استثنائية، لا فعلا وردّ فعل. الآن، سيكون مدى نجاح أو فشل اليوم الفاتيكاني مبنياً على ردّ الفعل لدى المسؤولين السياسيين والدينيين المسيحيين، الذين سبق أن ساهموا بإطاحة "الإرشاد الرسولي" و"سينودس الأساقفة" لأسبابٍ شخصيةٍ مصلحيةٍ ضيّقة، وأيضاً بسبب كثافة الأحداث المتلاحقة وعجزهم عن مواكبتها بلغةٍ مغايرةٍ للأدبيات الماضية، خصوصاً إذا فُرضت عليهم، في لبنان والإقليم. عادة، حين يشعر المسيحيون بما يصفونه "خطرا" عليهم، يذهبون باتجاه التقوقع، على قاعدة "لا أحد يريدنا في السلطة والجميع يريد إقصاءنا"، علماً أن المبدأ نفسه يسري على جميع الطوائف، لكنه يتخذ صدىً أكبر لدى المسيحيين، غير أن المسيحيين أنفسهم هم من حاربوا طويلاً كل الطروحات التي تنظّم العمل السياسي في إطاره الوطني الجامع، لا الفئوي، وصُنّف تقريباً كل من يتخذ مساراً مغايراً للتطرّف المسيحي أنه "خارج عن الطائفة". لا يصحّ لهذه الأدبيات أن تستمرّ اليوم ولا غداً، ومبدأ "الوجود المسيحي" لا يقتصر على مكاسب سلطويةٍ في نظام لبناني مدمّر، بقدر ما يحتاج إلى تفعيل الفكر السياسي، المبني على العدالة الاجتماعية، خارج سياقاتها الدينية أو الأفكار اليمينية البحتة. فما نفع "الوجود" في السلطة، في وقتٍ لم يعد فيه لا المسيحي ولا غيره قادرين على تأمين رغيف خبز؟ وكيف يُمكن المطالبة بحقوقٍ باسم الطائفة في نظام وُجد لابتلاع مفهوم المواطنة والمساواة بين جميع اللبنانيين؟ لا يحتاج المسيحيون سوى إلى عكس طرق التفكير، وسيجدون أنفسهم يطبّقون توصيات الفاتيكان.