عن حضور المحتوى الرقمي العربي

عن حضور المحتوى الرقمي العربي

19 أكتوبر 2022

(Getty)

+ الخط -

في منعطف الألفية الثالثة، غدا الإنسان يعيش في مدينة كونية شبكية/ رقمية بامتياز، تديرها الحكومات الإلكترونية وتحكمها الأجهزة الذكية، والوسائط التقنية المتعدّدة التي اختصرت الزمان وقرّبت المكان، ويسّرت التواصل البيني بين الأفراد والجماعات، ووفّرت الخدمات، وجمّعت المعارف بشكل غير مسبوق، وعزّزت حركة التثاقف الفوري بين الأمم التي أصبحت تتنافس على امتلاك الفضاء السيبراني والفعل فيه من خلال تقديم محتوى رقمي ثري، يعبّر عن وجودها، وملامح هويتها الحضارية، ومدى إسهامها في صياغة المشهد الإبيستيمي الكوني. وتخصّص البلدان المتقدّمة الأموال الكثيرة وتجنّد الخبراء للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وتعمل باستمرار على حوسبة منجزها اللغوي، والثقافي، والسياسي، والاقتصادي، قديما وحديثا، فتراها تحدّث بشكل مكثّف الموسوعات الرّقمية المفتوحة، والمعاجم الإلكترونية المحيّنة، والبوّابات التفاعلية، والمكتبات الإلكترونية، ومحرّكات البحث، والبرمجيات الترجمية، والتطبيقات الآلية، والمتاحف المرقمنة، والمدوّنات الفردية والجماعية، لكي تحافظ على لغاتها وتعزّز انتشارها في العالم، ولكي تحافظ على ذاكرتها الجمعية، وتصدّر نموذجها الحضاري إلى الآخر، ولكي تكون لها هوية بصرية وكينونة محوسبة، مؤثرة في المحتوى الرقمي الكوني.

ونعني بالمحتوى الرّقمي كل البيانات والمعطيات والمعلومات المنتجة أو المعروضة أو المخزّنة في صيغة إلكترونيّة على شبكة الإنترنت أو على أقراص مدمجة أو أقراص الفيديوهات الرقميّة أو غيرها. ويشمل مواقع الإنترنت، والبوابات والخدمات الإلكترونية، والمحتوى السمعي والبصري والبرمجيّات وبرامج التعرّف على الكتابة والصوت وقواعد البيانات ومحرّكات البحث والتّرجمة والمكتبات والمكاتب الرّقميّة ومواقع التّواصل الاجتماعي. ويشترط في المادّة حتّى تعتبر محتوى رقميّا، بحسب أهل الاختصاص، أن تكون منشورة للعموم، بحيث يستفيد منها متصفّح الشبكة من دون الحاجة إلى الدّخول بكلمة مرور، كما يتعيّن أن تكون المادّة المنشورة موثّقة ومفهرسة بطريقة منهجية دقيقة وواضحة.

ومن خلال مراجعة بيانات إحصائيّة موثوق بها صادرة عن جهاتٍ بحثيّة مختصة، يتبيّن الدّارس بوضوح محدوديّة المحتوى الرّقمي العربي على الشبكة، مقارنة بالدّول الغربيّة والبلدان المتقدّمة. وذلك رغم تزايد إقبال المتكلّمين العرب على الإبحار عبر شبكة الإنترنت، فبحسب موقع "إحصائيات عالم الإنترنت"، وهو موقع "ويب" دولي يعرض أحدث الأرقام المتعلقة باستخدام الإنترنت في مختلف أصقاع العالم، ارتفع عدد المستخدمين العرب للشبكة العنكبوتيّة للاتصالات بنسبة 9.34% من سنة 2000 إلى سنة 2021، وبلغ حدود 237 مليون مستخدم سنة 2021 من مجموع 447 مليون متكلّم عربي في العالم، أي أنّ زهاء 53% من النّاطقين بالعربيّة لديهم نفاذ إلى شبكة الإنترنت، وهي نسبة معتبرة، تحتل بمقتضاها العربيّة المرتبة الرّابعة من بين اللّغات العشر الأكثر استعمالا على الإنترنت.

ما زالت البحوث المعنيّة بمعالجة اللّغة العربيّة بطريقة آلية قليلة وغير شاملة لمختلف مقتضيات حوسبة لغة الضّاد ورقمنتها

ومع أهميّة هذه المعطيات، ما زالت مشاركة المستخدمين العرب في إضافة مواد للمحتوى الرّقمي العالمي متدنّية جدّا، ولم تتجاوز 5.2%. في المقابل، تقدّر مساهمة المستخدمين الإنكليز بـ25.9% من محتوى الشبكة العنكبوتيّة، والصينيين بـ19.4%، والإسبان بـ7.9%. وتفيد إحصائيّة صادرة في سبتمبر/ أيلول 2022 بأنّ 61.1% من مواقع الإنترنت تصدر باللّغة الإنكليزيّة، و5.5% بالرّوسيّة و4% بالإسبانيّة، و3.2 % بالألمانيّة، و3 % بالفرنسيّة. في حين أنّ مواقع "الويب" المعروضة باللّغة العربيّة لم تتجاوز سقف 1.1% من مواقع الشبكة. وفي ذلك دلالة على وجود فجوة رقميّة عميقة بين الدّول الغربيّة الصاعدة والبلدان العربيّة في مجال الاستخدام الشبكي عموما وصناعة المحتوى الرّقمي خصوصا، فالمساهمة العربيّة في إنتاج المضمون الرّقمي ضعيفة، ولا تتناسب مع عدد المستخدمين العرب لشبكة الإنترنت. هو ما يقلّل من مكانة العرب في المشهد الرّقمي الكوني، ويجعلهم في موقع من يكتفي باستهلاك المواد الرّقميّة من دون أن يتجاوز ذلك إلى المساهمة في إنتاجها بكثافة وفاعليّة.

ويمكن تفسير ذلك بعدّة أسباب، فقد تضافرت عدّة عوامل ساهمت في تشكيل حضور عربي رقمي باهت على الصعيد الكوني. فمن النّاحيّة التّشريعية، لم تتم صياغة إطار قانوني واضح المعالم، ينظّم القطاع المعلوماتي والصناعة الرّقمية في بلدان عربيّة كثيرة، كما أنّ البيروقراطية الإداريّة، والأحكام الزجريّة والتّشريعات القديمة، تقيّد جهود الباحثين في المجال الرّقمي، وتحول دون ظهور صحوة رقميّة عربيّة عارمة. لذلك ظلّ الإسهام العربي في تأثيث محتوى الشبكة ضئيلا.

حوسبة المنجز العربي في مختلف المجالات الحيوية مطلب ملحّ، يتعيّن تحقيقه لتعزيز المساهمة العربية في مجتمع المعرفة

ومن النّاحية التّقنيّة/ البحثية، ما زالت البحوث المعنيّة بمعالجة اللّغة العربيّة بطريقة آلية قليلة وغير شاملة لمختلف مقتضيات حوسبة لغة الضّاد ورقمنتها، فالتّعاون بين الأكاديميين واللّسانيين والتّقنيين في هذا الشّأن ما زال ضعيفا، فمن المهمّ بمكان وجود مختصين بالصرف الحاسوبي، والنّحو الحاسوبي، والتّرجمة الآلية، والمعجمية الإلكترونية، والبرمجة اللّغويّة. فندرة ذوي الكفاءة من المبرمجين والمختصين بالإعلام الرّقمي واللّسانيات الحاسوبيّة أثرت سلبا على كثافة المنجز الرّقمي العربي كمّا وكيفا. فما زال تدريس فنون البرمجة في مراحل مبكرة من المسار التّعليمي أمرا غير دارج في معظم البلدان العربيّة، وهو ما يؤدي إلى عدم إنتاج القدر الكافي من الخبراء والمختصين في مجال التّقانة والوسائط الرّقميّة المتعدّدة في العالم العربي. والأمر خلاف ذلك في البلدان الأوروبيّة؛ فقد أدرجت إنكلترا مثلا مناهج البرمجة وعلوم الحاسوب في مقرّرات تدريس بالمدارس الابتدائية على نحو مكّنها من صناعة جيل من الخبراء والأكفّاء في هذا المجال الذّين أشرفوا على رقمنة اللّغة الإنكليزيّة، ومكّنوها من الرّيادة في مجال صناعة المحتوى الرّقمي على الشبكة.

كما يعاني المحتوى الرّقمي العربي من غلبة النّقل والنّسخ عليه، فأغلب المواد العربيّة على الإنترنت مكرورة، وجلّها مترجمة أو مأخوذة بطريقة غير موثّقة من مصادر أخرى، وكثير منها ينتهك حقوق الملكيّة الفكريّة. وانعكس ذلك سلبا على أصالة المحتوى العربي وصدقيته. هذا إلى جانب التقصير الظّاهر في تصميم المواقع العربيّة وسوء إخراجها جماليّا، وعدم تحيينها آنيّا، وهو ما أدّى إلى محدودية إقبال المستخدمين عليها. تضاف إلى ذلك ندرة التّطبيقات التّي تعتمد اللّغة العربيّة وعدم استعمال المُبحرين على الشبكة من العرب محرّكات البحث العربيّة التي ظلّت مهمّشة، بل مجهولة بسبب قلّة التّرويج لها وإقبال المستخدمين العرب على محرّكات بحث غربيّة على شبكة الإنترنت. كما يلاحظ ضعف حصيلة المكانز اللّغويّة العربيّة المعتمدة على تقنيات الذّكاء الاصطناعي، فجلّها بحاجةٍ إلى نظم تقنيّة ذكيّة متطوّرة، تسمح بتخزين كمّ هائل من المعلومات، وتوفّر إمكانات لاسترجاعها وتحيينها. وفي الإطار نفسه، ما زالت خدمات التّرجمة الآلية إلى اللّغة العربيّة تعاني من إخلالات في مستوى نقل النّصوص بطريقة دقيقة وواضحة شكلا ومضمونا من اللّغات الأجنبيّة إلى لغة الضّاد.

على صعيد آخر، ما زالت صناعة المحتوى الرّقمي تعاني من مشكلات لوجستيّة، فجلّ الجهود في هذا المجال فرديّة، مشتّتة، وتفتقر إلى المأسسة والعمل الجماعي المنظم، فلا توجد منظمات وازنة أو مؤسّسات رسميّة فاعلة معنيّة بإدارة المحتوى الرّقمي العربي، وتوفير موارد مالية قارّة له بغرض تطويره، ورصد مردوديته وسبل تحسينه كمّا وكيفا.

القصور العربي في مجال صناعة المحتوى الرقمي يؤدّي، عمليّا، إلى تعزيز الصورة النّمطيّة للمواطن العربي المستهلك

ويقلّل ذلك كله من حضور العربيّة في الفضاء الرّقمي. ولذلك تداعيات سلبية عدّة، فالقصور العربي في مجال صناعة المحتوى الرقمي يؤدّي، عمليّا، إلى تعزيز الصورة النّمطيّة للمواطن العربي المستهلك، غير القادر على الإبداع والابتكار وتقديم إضافة نوعيّة إلى الآخر، وهو ما يعزّز تهميش العرب وبقاءهم خارج دائرة الفعل الحيوي في تشكيل ملامح المشهد الحداثي بمكوّناته المختلفة. كما يرسّخ ذلك المركزية الثقافية الغربيّة، على نحوٍ يفضي إلى انتشار النّموذج الحضاري الغربي، وهيمنة العولمة الأحادية للغرب باعتباره صانع الحداثة ومنتج المخترعات والأفكار الجديدة في مجالات شتّى، وهو ما يعزّز سيطرته الثقافيّة على العالم. وفي ظلّ ضبابيّة الصورة بشأن المنجز الثقافي العربي ومحدودية انتشاره، يجدّ المتطرّفون في الغرب والشرق في ترويج كراهية العرب وممارسة العنصريّة ضدهم وتقديم صور مشوّهة عنهم للعالم. وذلك راجعٌ، في جانب ما، إلى تهاون العرب في التّعريف بأنفسهم وبمنتجاتهم الفكرية والإبداعيّة عبر الفضاء السيبراني، وضآلة جدّيتهم في إنتاج محتوى معرفي تنويري كوني، مكثّف، يبرز خصوصياتهم الحضارية، وهويتهم البنائية وطاقاتهم الإيجابية، وقدرتهم على المساهمة الفاعلة في المشهد الثقافي العالمي.

ختاما، الحاجة أكيدة لإعادة ترتيب البيت الإلكتروني العربي وتجديده وإثرائه ليواكب الدفق الهائل للمعلومات من ناحية، ولينقل إلى المستخدم العربي وإلى كلّ مواطن إلكتروني منتجات العقل البشري المبدع ومنجزات البلدان العربيّة وفضائلها الثقافيّة والحضاريّة قديما وحديثا من ناحية أخرى، على نحوٍ يسهم في تقديم صورة سنيّة نيّرة تليق بالعربيّ. فمن المهمّ بمكان أن نخرج بالعربيّة من صفحات الكتب الصفراء والمجلّدات المذهّبة إلى صفحات الويب والتواصل التفاعلي الإلكتروني، فحوسبة المنجز العربي في مختلف المجالات الحيوية مطلب ملحّ، يتعيّن تحقيقه لتعزيز المساهمة العربية في مجتمع المعرفة، وكسب رهان الانتماء إلى الزمن الحداثي الرقمي، والفعل فيه على نحوٍ يضمن استمرار لغة الضاد وريادتها في صناعة المشهد التَثاقُفي الكوني.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.