عن إنسانيّة داسيلفا وشياطين نتنياهو

عن إنسانيّة داسيلفا وشياطين نتنياهو

22 فبراير 2024

داسيلفا يوقّع في سجل الزوار في مقرّ جامعة الدول العربية في القاهرة (15/2/2024/فرانس برس)

+ الخط -

طبيعيٌّ جداً أن يثير موقف الرئيس البرازيليّ لويس إناسيو لولا داسيلفا العلنيّ في أديس أبابا، على هامش القمة الأفريقية، قبل أيام، رئيس "مجلس الإبادة" نتنياهو وحنقه الشديد، فيستدعي هذا الأخير شياطينه، ويتحدث عن "شيطنة" لكيانه الصهيونيّ الموغل في إجرامه الصادم للرأي العام العالميّ، كأنّ شيطنة الشيطان نفسه أمر ممكن، بينما الأكيد أنّ لا أحد يمكنه شيطنة المُشَيْطَن!
نحن أمام عقيدتين مفترقتين تمام الافتراق، واحدة إنسانيّة (هيومانيّة) يمثّلها الفقير الذي صار رئيساً مرّتين للدولة الأكبر في أميركا اللاتينية، وعقيدة مقابلة هي سليلة عقيدة جابوتنسكي الإفنائية الإحلاليّة (مع جدار حديديّ يحمي كياناً استعماريّاً عنصريّاً)، فضلاً عن العقيدة الصهيونية نفسها القائمة على الإرهاب والمجازر والترحيل، فكيف للرجلين أن يتوافقا في القيم والمعاني الإنسانية، وأَلّا يُشعل الرئيس لولا جنون "بيبي" الذي لا يشبع قتلاً ولا يرتوي دماً.
ينطق رئيس البرازيل بالحقّ والحقيقة اللذيْن يعرفهما جميع قادة الكيان الإسرائيلي، لكنهم يكابرون ويأبون الإقرار بجريمتهم التي تهزّ ضمائر مئات ملايين البشر، ولا يوقفون المذابح اليومية التي يرتكبونها في غزّةَ المتألمة البطلة. يمضي هؤلاء في غيّهم ووحشيّتهم ويريدون من العالم كلّه أن يشهدَ صامتاً، ومن رئيس البرازيل المعروف تاريخياً بـ"نصير الفقراء" أن يصمت حيال استشهاد أطفال غزّة ونسائها وشيوخها، وألّا يدلي بموقفِ مستنكرٍ ورافض إزاء الموت العميم الذي فاق كل حدّ ووصف وخيال.

الإبادة هي الإبادة، بالمواصفات التي نصّت عليها القوانين الدولية، ولا مجال للتأويل أو لنسبيّة المعايير

جلّ ما قاله الرئيس لولا داسيلفا في أديس أبابا إنّ "ما يحدث في قطاع غزة ليس حرباً بل إبادة (...) ولم يحدث في أيّ مرحلة أخرى في التاريخ"، مستدركاً: "في الواقع، سبق أن حدث بالفعل حين قرّر هتلر قتل اليهود"، داعياً إلى "وقف آلة القتل"، ومعلناً أنّ حكومته ستقدّم مساعدات جديدة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فبمَ جافى الرئيس داسيلفا الحقيقة؟! وهل في الإمكان إطلاق وصف آخر غير الإبادة على ما يحصل في غزّة لجهة قتل عشرات ألوف المدنيين؟ يستطيع نتنياهو ومجلسه الإباديّ وبعض الجمهور الإسرائيليّ المؤيّد له تسمية جريمتهم بما يشاؤون، فلن يغيّر ذلك في الواقع شيئاً، طالما أن ملايين الناس في العالم يرفعون لافتات "أوقفوا الإبادة". وأين الخطأ في تشبيه إبادة حالية بإبادة مماثلة في التاريخ الحديث؟ الإبادة هي الإبادة، بالمواصفات التي نصّت عليها القوانين الدولية، ولا مجال للتأويل أو لنسبيّة المعايير. وهل في الدعوة إلى وقف آلة القتل ما يستدعي الرفض أو الاستهجان؟ موقف الرئيس البرازيلي إنسانيّ بامتياز، غير مختلف عن مواقف مئات الملايين الذين نزلوا إلى الشوارع في مدن العالم، مستهولين ما يحصل لأهل غزّة والضفة الغربية، وللإنسانية عامةً، منادين بـ"فلسطين حرّة" وبوقف فوريّ للإبادة المستمرّة. 
إزاء موقف مماثل من رئيس دولة كبرى ذات وزن عالمي، كان متوقّعاً أن يزداد جنون نتنياهو وطاقم السلطة الصهيونية فيخبطون خبط عشواء ويستدعون السفير البرازيلي إلى "متحف الهولوكوست" بدلاً من وزارة الخارجية إذلالاً له ولما يمثّل، فتقابل البرازيل هذا العمل الفاجر والمشين بطرد السفير الإسرائيليّ من العاصمة برازيليا، فضلاً عن إعلان الرئيس داسيلفا نيّة بلاده الاعتراف رسمياً بفلسطين دولةً كاملة العضوية والسيادة في الأمم المتحدة. وهذ كلّه أكثر من كافٍ ليجنّ الكيان بأكمله، فهذه البرازيل وليست أيّ دولة أخرى صغيرة أو عديمة الوزن في المعادلات الدولية. علماً أنّ نتنياهو وبني قومه لم يفيقوا بعد من صدمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولم يعوا الحقيقة المرّة، المصيريّة والحاسمة: المدعوّة "إسرائيل" وصهاينتها ما عادوا قادرين على وضع قناع "الضحية" والتلطّي خلفه وابتزاز العالم به. خسروا إلى الأبد "دور" الضحية الذي أجادوا لعبه عقوداً. أصبحوا هم، للعالم بأسره، النازية الجديدة الصهيونية التي باتت لها محرقتها الإبادية الخاصة في غزّة، "هولوكوستها" الخاص الذي برعت في تقليد مرتكبه الأصيل الذي كانت تعدّه جلّادها، فإذا بها اليوم جلّاد له ضحاياه. انكسرت معزوفة "الضحيّة" التي أصمّ اليهود الصهاينة آذان البشرية بها. والحقيقة الثانية التي سيصحو عليها الكيان قادةً ومؤيدين من الشعب: "إسرائيل" هذه لم تعد تخيف أحداً. وتلك حقيقة ثانية أبدية، لن تردّها عقارب الزمن إلى الماضي.

"إسرائيل" لم تعد تخيف أحداً. وتلك حقيقة أبدية، لن تردّها عقارب الزمن

كنتُ واثقاً من أن صمت الرئيس البرازيليّ الذي ران حتى الأمس القريب لن يطول. لا أخفي أنني قلقتُ بعض الشيء، غير أنّ حدسي كان يُشعرني بأنّ من المستحيل أن يلزم لولا داسيلفا الصمت طويلاً، هو القادم من قاع الفقر طفلاً يتيماً يشبه أطفال غزّة اليوم، فاقداً أمه في عمر الثامنة، ومُوقِفاً تحصيله المدرسيّ في سنّ العاشرة، ومضطرّاً بسبب الفقر الشديد إلى العمل ماسحاً للأحذية، متسلّحاً بوصيّة أمّه له طفلاً يافعاً بأن يسير مرفوع الرأس ويحترم نفسه كي يحترمه الآخرون، وقد تمتّع منذ اليفاع بالصبر والتحمّل، مؤمناً بالروح الثورية والتغيير، مرتقياً على دروب الكفاح والنجاح، وصولاً إلى رئاسة بلده، غير متنكّر يوماً لماضيه القاسي والمرّ، والأهمّ الأهمّ محتفظاً بحبّه الفقراء. 
إنسانٌ بإنسانيّة داسيلفا ذاق أيضاً طعم الظلم واللاعدالة في عهد الرئيس الفاشيّ السابق جايير بولسونارو وبعض القضاة الفاسدين، قبل عودته إلى رئاسة بلاده محمولاً على أكتاف شعبه الذي يحبّه، يستحيل أن تجمعه بنتنياهو نظرة واحدة إلى الإنسان والحياة، ولا إلى القيم الإنسانيّة التي لا يملك رئيس "مجلس الإبادة" وأتباعه ما يشبهها.