عروض الأزياء صورةً عن العصر

عروض الأزياء صورةً عن العصر

08 أكتوبر 2022

العارضة بيللي حديد في إسبوع الموضة في باريس (3/10/2022/فرانس برس)

+ الخط -

اختتم قبل أيام في باريس أسبوع الموضة العالمي، وهو ما يعتبره كثر في العالم حدثا بالغ الأهمية، فهو ليس فقط فرصةً للأثرياء والمشاهير، لاقتناء آخر صيحات الموضة من الملابس والأحذية والإكسسوارات، وإنما هو أيضا مؤشّر على التوجه الاجتماعي الذي يمضي إليه عالمنا الحديث، فدور الأزياء الشهيرة غالبا ما تكون الدليل على مستوى الحريات الاجتماعية والسلوك العام في المجتمعات الغربية، فمثلا كانت الملابس الكلاسيكية الأنيقة، مدروسة الألوان والتفاصيل بدقة، ابنة الزمن المحافظ الكلاسيكي، حين كان لا يزال للكنيسة دور كبير في حياة البشر. بينما كانت الملابس الواسعة الفضفاضة عشوائية الألوان والزركشة مناسبة للزمن الذي انتشرت فيه حركة الهيبيز المترافقة مع الفكر اليساري التقدّمي الذي شهد مدّا عالميا في سبعينيات القرن الماضي. وهكذا، في كل مرحلة، سياسية واقتصادية واجتماعية، يكون لدور الأزياء دور كبير في ترويجها عبر ما تقدّمه من ابتكارات جديدة في اللباس من جهة وفي أجساد العارضات والعارضين من جهة ثانية.

اختتمت العارضة الشهيرة، بيللي حديد، أسبوع الموضة في باريس، (تابعت ما تم بثه على "يوتيوب" ووسائل التواصل) بطريقة غريبة ونادرة ومدهشة، فقد ظهرت على منصّة العرض شبه عارية، ووقفت يرافقها اثنان يحملان مرشّتين استخدمتا لرشّ رذاذ شفّاف على جسدها، كان الرذاذ يتحوّل إلى قماش أبيض بالغ الرقّة ينسدل بهدوء على جسد العارضة، وبعدما انتهت عملية الرشّ بدأت عملية تحويل القماش المنسدل إلى ثوبٍ بقصة طويلة على الساق، وبياقةٍ مفتوحةٍ على الكتفين. هكذا تم تصميم الثوب وارتداؤه خلال أقل من ربع ساعة وأمام أعداد هائلة من البشر. يشبه هذا العرض الغريب ما نفعله في يومياتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، أولا، من حيث الفقدان التام لخصوصية حياتنا بعدما أصبحنا نستعرض كل تفاصيل يومياتنا على وسائل التواصل منذ لحظة استيقاظنا، بما في ذلك أوضاعنا كلها (هناك من يبثّون مباشرة حتى غرف نومهم وحماماتهم ودخولهم إليها). ثانيا، من حيث فكرة استبدال الواقع بالافتراض، إذ جرى في العرض استبدال القماش الطبيعي بخامةٍ قد تكون افتراضية، لا نعرف ما هي، وليس لدينا أي توقّع عما ستتحوّل إليه حين تُنهي العارضة فقرتها وتبدّل ثيابها، هل سيتلاشى ما يفترض أنه قماش؟ ما رأيكم؟ أليس كل ما في عصرنا يتّجه نحو هذا المنحى الغريب من التلاشي؟

أما الأكثر لفتا للنظر فهو عرض دار الأزياء الإيطالية فالنتينو، حيث ظهر كثيرون من العارضين والعارضات الخاصين بها بملابس وأجساد متشابهة: رؤوس حليقة وأجساد بالغة النحافة بلا أي منحنياتٍ تميّز الجسد الأنثوي عن جسد الذكر، وبملابس يرتديها الفريق العارض جميعه، حيث ستكتشف أن تلك العارضة التي ترتدي تنّورة ضيقة طويلة وحذاءً بكعب عال ليست سوى عارضٍ ذكر لا يختلف بشيء عن عارضة أخرى بجسد ممسوح ترتدي ثيابا مشابهة بحذاء ذي كعب سميك. اختفى في العرض ذلك الفاصل الذي يميّز الذكر عن الأنثى، سواء في شكل الجسد أو في تصميمات الملابس. لكن، ألا تسير المجتمعات الغربية حاليا بقوة نحو إلغاء الفروق الجندرية في الحياة ونحو اللاجنسانية، سواء في إعلان الهوية الجنسية أو في السلوك اليومي مع الحياة والمجتمع، من حيث السماح قانونيا بزواج المثليين، وتغيير شكل العائلة والعبور الجنسي وعمليات التحويل والحريات الجنسية المتجاوزة حتى للخيال الجنسي البشري؟

ثمّة علامة أزياء يابانية باتت أخيرا شهيرة جدا في الغرب اسمها "يوني كلو" الجزء الأغلب من منتجاتها يصلح لأن يلبسه الذكور والإناث، من حيث الموديلات المصمّمة ومن حيث نوعية الأقمشة المستخدمة وألوانها المحايدة، حتى الأحذية الخاصة بالعلامة صالحة للجنسين، أو ربما، إن صحّ التعبير، مصمّمة لتلغي التمايز بين قدمي الأنثى والذكر؛ ليكون الجسد البشري محايدا تماما أو متشابها من دون أية فروق أو اختلافات كانت تعطي، طوال الوقت، للعلاقة بين الذكر والأنثى تلك الغواية المذهلة التي تمنح حياتنا ألوانا وروائح مختلفة. وعلى ذكر الروائح، أصبحت شركات العطور أيضا تنتج هذه الأيام عطورا مناسبة للجنسين بلا أي تمييز، وكأن ثمّة إصرارا من الجميع على تفتيت الهوية الجنسية تماما نحو الوصول إلى إعدامها، ليس في المظهر فقط، بل حتى في الذاكرة الجمعية للبشرية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.