ظلال ثقيلة للهويات الإيمانية المتصارعة في اليمن

ظلال ثقيلة للهويات الإيمانية المتصارعة في اليمن

03 مارس 2021
+ الخط -

غذّت سنوات الحرب في اليمن المنحى الديني المتشدّد في بيئات اجتماعية محلية مُفقرة ومسدودة الأفق، بحيث أدّى ذلك إلى تنامي تكوينات وجماعات دينية أصولية راديكالية، بشقيها، السني والشيعي، بما في ذلك استيراد قوالب دينية بفضل تدفق المال الإقليمي، وإعادة استنباتها في البيئة اليمنية. كما أسهمت السياسات الممنهجة للجماعات الدينية التي أصبحت سلطةً حاكمةً في التأثير على هوية المجتمعات المحلية التي تحكمها، بحيث تعمل هذه القوى مجتمعةً على استهداف الإرث الثقافي التاريخي والمدني للمجتمع اليمني.

في الخريطة المجتمعية ليمن الحرب، تتعدّد الجماعات والقوى الدينية، بحيث أصبحت أكثر خطورةً في تأثيراتها على مظاهر الحياة اليومية لليمنيين، فبالإضافة إلى التنظيمات الجهادية التقليدية، كتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وكذلك أنصار الشريعة التي مكّنتها ظروف الحرب من التمدّد، وتوسيع حاضنتها الاجتماعية، فإن هناك قوى محلية، وإنْ بدت مشتتة في الخريطة المجتمعية ليمن الحرب، إلا أن تأثيرها على المدى البعيد لا يقل خطورةً عن التنظيمات الجهادية التقليدية، إذ تتمحور أدواتها في تكريس هوياتٍ "إيمانيةٍ" وفق مرجعياتها الدينية، كالجماعات السلفية التي تنشط الآن في ريف مدينة تعز، والحواري الداخلية للمدينة، بتمويلٍ سعودي، وكذلك الجماعة السلفية التي تحضر في مدينة الضالع، وتقيم مؤسساتٍ دينيةً وجامعات لتخريج دفعاتٍ من مشايخ الدين، بتمويل سعودي وإماراتي، بما في ذلك سلفنة المجتمع المحلي في مدينة المهرة، نتيجة لنشاط الجمعيات الخيرية السعودية، إلى صنعاء، حيث تعمل جماعة الحوثي على إعادة تشكيل المجتمع وفق قالب ديني شيعي متشدّد. وخلافا للتنظيمات الجهادية التقليدية، تمارس القوى الدينية الأخرى وظيفتها الاجتماعية والسياسية بحرية، إذ وفر لها غياب الدولة اليمنية، وتشظّي حكومة مركزية فاعلة تُعنى بحياة المواطنين، بأن تصبح سلطةً بديلةً أو موازيةً لها، حيث تقدّم، من خلال جمعياتها الخيرية الممولة، خدمات اقتصادية للطبقات الاجتماعية الأشد فقرا، في مقابل استقطابهم إلى تنظيماتها الدينية. وإذ كانت مجمل هذه القوى تعمل على مستوىً أدنى من خلال منظماتها الخيرية التي تنامت في ظل الحرب والدعم الإقليمي، فإن جماعة الحوثي، بوصفها جماعة دينية شيعية، وسلطة أمر واقع، تعمل أدواتها في تفتيت هوية المجتمعات المحلية التي تسيطر عليها، بمستويين. أعلى: سياسي، يأتي بصورة قوانين وتوجيهات مفروضة من سلطتها الدينية، تستهدف التقاليد المدنية والتاريخية المشكلة لهوية المجتمعات المحلية. ومستوى أدنى: من خلال إطلاق سلطة مشايخ الدين المتشدّدين التابعين لها في الجوامع، لضخ التعاليم الدينية الزيدية المتشدّدة، والتي تمتزج بالتقاليد الإيرانية مرجعية للحياة اليومية للمواطنين. وهم بالتالي لا يحدّدون فقط السياسات الدينية للمجتمع المحلي التي تنتهجها سلطة الجماعة، وإنما يعيدون تشكيل المجتمع بالقوة والإرهاب، أو على الأقل يتسببون بتحدّيات عديدة، تستهدف بقاء صورته التاريخية وطبيعته المدنية.

السياسات الدينية التي تدير مناحِي الحياة في صنعاء نموذج للمدى الذي ذهبت إليه جماعة الحوثي في إعادة قولبة المجتمع المحلي، ومحاولة تشكيله وفق هويتها الدينية

تمثل السياسات الدينية التي تدير مناحِي الحياة في العاصمة صنعاء نموذجا للمدى الذي ذهبت إليه جماعة الحوثي في إعادة قولبة المجتمع المحلي، ومحاولة تشكيله وفق هويتها الدينية، فمنذ إحكام سيطرتها على السلطة، بات تجريف الهوية المدنية في المناطق الخاضعة لها هدفاً لسياستها العامة، وموجّها لممارساتها، وإن تجلى ذلك في صنعاء، مدينة التنوع الثقافي والمدني، حيث تتبدّى المقاومة المجتمعية أعلى من أي مدينةٍ أخرى خاضعة للجماعة، فإضافة إلى تجريم القوى الدينية الأخرى، جديدها تهجير قادة الجماعة البهائية، ومنع من تبقوا من أتباع الطائفة البهائية من ممارسة شعائرهم، فقد حصرت التعليم الديني بتدريس عقيدة الجماعة، بما في ذلك إعادة صياغة التاريخ السياسي والديني اليمني من خلال المناهج الدراسية لتكريس نفسها جماعة إلهية مقدّسة، لها الحق الحصري في حكم اليمنيين، كما فرضت الإطار الديني الشيعي للجماعة موجّها لمؤسسات الدولة اليمنية في المناطق الخاضعة لها، بحيث أجبرت الموظفين على حضور محاضرات دينية، تدرس خطب زعيم الجماعة والمراجع الشيعية المتشدّدة، واعتقال بعض الموظفين الذين يرفضون المشاركة في هذه المحاضرات، بما في ذلك الدروس الإجبارية الأسبوعية للوزراء وقيادات الدولة التي يلقيها زعيم الجماعة من وراء شاشة، في صورة كاريكاتورية للزعيم الديني الموجّه للدولة، فضلا عن توظيف الاحتفالات الدينية لقادتها للتحشيد الديني - الطائفي، وكذلك حصر النشاط المجتمعي، على النشاط الديني للجماعة، وتنمية مراكز شيعية رجّالية، وأخرى نسوية في الحواري والأرياف، لاستقطاب نطاقاتٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ إلى الدائرة الشيعية للجماعة. وأخيراً، عمدت الجماعة إلى منع ترقيم أي كتابٍ يمني في "الهيئة العامة للكتاب" التي تسيطر عليها الجماعة، من دون موافقة الرقيب الديني للجماعة، في خطوةٍ كارثيةٍ تستهدف الحريات المدنية وحرية التعبير والتفكير، فيما تأتي مجمل تلك السياسات الدينية العقيمة التي تفرضها الجماعة على المواطنين، تحت مسمّى الحفاظ على "الهوية الإيمانية".

تتعدّد الجماعات والقوى الدينية، بحيث أصبحت أكثر خطورة في تأثيراتها على مظاهر الحياة اليومية لليمنيين

وتجسّد "الهوية الإيمانية" لجماعة الحوثي مجمل التقاليد القروسطية بماكينتها القهرية المنظمة التي لا تكمّم الأفواه فقط، وإنما تُرسي نموذجا دينيا ماضويا، يؤطّر الحياة اليومية للمواطنين وفقها، وذلك بهدف فرض هويتها على المجتمع، بما في ذلك إلهاؤه عن المطالبة بتحسين شروط حياته اليومية التي تتحمّل الجماعة مسؤولية تدهورها، عن طريق زجّه في قضايا تدخل في صميم حريته الشخصية. وبالتالي، خارج نطاق سلطتها، ولا تكمن المفارقة في حرص الجماعة على تقييد المجتمع وقولبته وفق هويتها الانعزالية، وإنما ادّعائها أن كل تلك السياسات الموجهة ضد المجتمع تصرّفات فردية، من قادتها الدينيين، لتجميل سلطتها أمام المجتمع الدولي، ومع تعدّد السياسات الدينية التي فرضتها جماعة الحوثي على المجتمع المحلي، طوال سنوات حكمها، بحيث من الصعب حصرها، فإن الصورة الأكثر قتامةً تتمظهر في سياساتها الدينية الجنسية التمييزية التي تستهدف حياة النساء وحرّياتهن الشخصية ومجالهن العام، إذ لم تتوقف حرب الجماعة الممنهجة على النساء، بتجريم ارتيادهن المقاهي والكافيهات، بذريعة منع الاختلاط بين الجنسين، وكذلك تحديد الزي الشخصي الذي ترتديه النساء، بما في ذلك الخطب التحريضية الأسبوعية ضد النساء في منابر المساجد، فإن سلطة الجماعة بدأت تطبيق سياسةٍ منهجيةٍ متدرّجةٍ تستهدف فصل الجنسين في قاعات الدرس في جامعة صنعاء والجامعات الخاصة، في ظاهرةٍ خطيرةٍ لم تحدث في تاريخ اليمن، حتى في العصور الأكثر ظلاميةً وتخلفاً، ثم منعت مؤخراً النساء العاملات في المطاعم من العمل في صنعاء، في خطوةٍ كارثيةٍ تستهدف كل المكتسبات الحقوقية التي راكمتها المرأة ونضالاتها الإنسانية والحقوقية، وكذلك حقها الأصيل في الحياة، فضلاً عن توجيه الجماعة بمنع وسائل تنظيم النسل، وهو ما يشكّل تدخلا خطيرا ولا إنسانيا في حياة النساء وحرّيتهن في التصرّف في أجسادهن.

في ظل "الهويات الإيمانية" المتصارعة التي يزخر بها يمن الحرب، وتعمل على تقويض الهوية المدنية والوطنية لليمنيين، تتفاقم التحدّيات التي يواجها المجتمع اليمني، للإفلات من أسر الجماعات الماضوية. ومع صعوبة أن تؤدّي السياسات الدينية إلى تغيير هوية المجتمع المدني في صنعاء، والذي تفوق تقاليده المدنية والتاريخية زهاء أكثر من ألفي عام، والذي لا يمثل تاريخ ظهور الجماعة إلا نقطة سوداء صغيرة في مسار الخط الحضاري المدني لصنعاء، فإن هذه السياسات تمثل تضييقا للحياة اليومية الضيقة أصلا، وانتهاكا لحياة اليمنيين، وكذلك محاولة بائسة لإيقاف عجلة التاريخ وتطور المجتمع.