صديقي الكلب وردان

06 يونيو 2014
+ الخط -
أَظنني قرأت رواية عبد الرحمن منيف "حين تركنا الجسر"، في الثمانينيات، إبّان شغفي (الباقي؟) بأعمال الروائي الكبير. لا أتذكر تفاصيل تلك الرواية، وهو ما لا يعود إلى مضيّ ثلاثة عقود على مطالعتي لها، بل لأن الرواية كانت (وما زالت طبعاً) بلا تفاصيل، وذهنيةٌ مونولوغية، والسرد فيها يبدو فالتاً ومسترسلاً، وإنْ ليونتُه ومرونته واضحتان. ومع نسياني مسارها، إلا أَن الكلب وردان فيها يفاجئني، أَحياناً، بحضوره إلى شاشة ذاكرتي، منذ يفاعتي طالباً جامعياً في تلك الغضون، أنّى شاء، وكيفما اتفق. وحدث، قبل أيام، أَن نسخةً من الرواية (صدرت في 1976) صادفتها في مكتبة صديق، فتصفحتها وقتاً غير قصير، ووجدت الصياد، بطل الرواية، يتحدث إلى وردان، على سجيّته، عن خيباته، وعن "جحيم" تعيش فيه روحُه، ويثرثر عن واقعةِ تركه، مع آخرين، جسراً، وكان عليهم أن يعودوا إليه. يُنصت وردان إلى ذلك كله وغيره، ويتحرك، ويدور في غير مطرح، ويذهب إلى مسافاتٍ بعيدةٍ ويعوي، ثم يعود، كأنه يفتعل شجاعةً ليست فيه. وإذ يصفه الصياد بأنه صديقه اللدود، فذلك يؤشر إلى أن في وردان كثيراً منه. وحدث، مرّة، أَنه هدّده بأن يقطع ذنبه ويجعل منه قلادة. وتمضي الرواية في دفقات سرد الصياد، إلى أن يقتل الكلب نفسه، من فرط انكشاف ضعفه وأوهام شجاعته الغائبة، وهو الذي يراه الصياد "عنواناً لخيبةٍ لا تنتهي".
كأن الواحد منّا في حاجةٍ دائمةٍ إلى "وردان" بجانبه، ليفضفض قدّامه بما لديه ممّا ليس في وسعه أن يحكيه أمام الآخرين. في مقدورك أن تكون شجاعاً، ونحريراً كيفما تشاء، وأنت تثرثر أمام كلبٍ يتودد إليك، بدل أن تكون في وحدةٍ موحشة، تخاتل فيها أوهامَك عن نفسك. وأُخبرتُ، مرة، أن روائيا عربياً، (لا مدعاة لذكر اسمه)، عاش حياته في عزلةٍ مديدة، بلا زوجة ولا عائلة، جاء بقردٍ إلى منزله للإقامة معه. وأحدس أنه، رحمه الله، كان يستطْيِبُ الحكي (أو البوح، ولكن، لا أحب هذه المفردة من فرط ذيوعها) أَمام القرد عن خفايا وخيباتٍ وخطايا، ليس في مستطاعه أن يكتبها، مع أنه من أَشجع الكتّاب العرب في تعرية نفسه، في سرده سيرتَه في غير نصٍّ ورواية. وأظنه يوسف إدريس كان ألمعياً في إبداعه شخصية الشيخ شيخة في قصةٍ قصيرةٍ له باهرة، كان هذا أبكم وأصم، يتقاطر إليه أهالي القرية، فرادى وخفيةً، نساءً وصبايا وكهولاً وشباناً، فيبثّون أمامه مخازيهم وشهواتهم وخياناتهم، وعندما يشيع أن الشيخ شيخة كان يسمع، ويتعلّم النطق، يُعثر عليه مقتولاً.
على شيء طفيفٍ من التشابه، مع صنيعي منيف وإدريس، اختار إلياس خوري في روايته الملحمية "باب الشمس" أن تكون حكاياتٍ وقصصاً و"خراريف" فلسطينية، يرويها ممرضٌ في مستشفى لمريض غائب عن الوعي مسجّى أمامه، مصاب بالسكتة الدماغية، أظنه مات في مختتم الرواية، فيما قُتل الشيخ شيخة، وقتل نفسَه الكلب وردان، وهذا شخصيته أقرب إلى مزاج كاتب هذه السطور، وإنْ رآه صياد عبد الرحمن منيف، مرّة، مثل دودةٍ تتحرك بلا هدف، لكنه، أيضاً، كلبٌ مبجّل، في حكيٍ آخر في الرواية. ربما لأن أشباه وردان ونظائره كثيرون بين ظهرانينا، حاضرون ناساً من لحم ودم، رجالاً جوفاً (مع الاعتذار ل ت. س. إليوت)، في سمتِهم جيناتٌ بعثيةٌ طريفةٌ، حيث البطولة الشعاراتية والاستعراضية، وفي الوقت نفسه، مع أرنبيةٍ عاريةٍ من أي دجلٍ كان.
أتذكّرني، على مبعدةِ أَزْيَد من ثلاثين عاماً، أَقرأ، ربما في ليلة شتاء باردة، أو في هجير ظهيرةٍ ما، "حين تركنا الجسر"، وأتعاطف مع كلبٍ طريف، يبعث على الإشفاق، أظنه عبد الرحمن منيف أغضبني، لأنه ترك الكلب يقتل نفسه فيموت، أطال الله أعمار مَن أعرف، ممّن هم على سمتِه، ويتوهمون في أنفسهم شجاعةً، غائبة. حماهم رب العزة، وحمى صديقي الكلب وردان، ثاوياً في ذاكرتي، ولا يغادرها.
 
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.