ريما وخالد نزّال: حبّ فلسطيني تترصّده فرق الاغتيال

ريما وخالد نزّال: حبّ فلسطيني تترصّده فرق الاغتيال

16 يوليو 2023
+ الخط -

تروي ريما كتّانة نزّال، في كتابها "خالدٌ في حياتي" (دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2023) عن سيرتها الذاتية مع رفيق دربها خالد نزّال، قصة حبها وارتباطها بالشهيد خالد، وهو ما جاء استجابة متأخّرة 37 عاماً لوعد قطعته لابنيها ديمة وغيث، لكي تعرّفهما على أبيهما أولاً، ولتوضح لهما وللعالم أسباب ارتباطها بـ"مشروع شهيد" كانت كل المؤشّرات تدلّ على أنه مستهدف بالملاحقة والاغتيال من قبل الاحتلال الإسرائيلي وأدواته.

كان يمكن أن يكون الكتاب قصّة حب عادية بين شاب وفتاة من الطبقة الوسطى الفلسطينية، تبدو كل ظروفهما الشخصية مفتوحةً على فرص النجاح والمستقبل المضمون. وكان يمكن أن يحمل وصفاً قريباً من "الجريء والجميلة" مثلاً أو "حبّ تحت الاحتلال"، ولكن أي حبٍّ هذا الذي تترصّده فرق الاغتيال الإسرائيلية كل يوم، وتواظب الزوجة فيه يومياً على تفقد زوجها حين ينام في سريره إن ما زال حيّاً.

تحكي السيرة قصة جيل كامل من الفلسطينيين، رَدَّ على الهزيمة القاسية والمُذِلّة في يونيو/ حزيران عام 1967 بإطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة. وكان من الطبيعي في هذه الظروف أن تستقطب الثورة، بفصائلها المختلفة، الحالات الطليعية الواعدة من الشباب الفلسطيني والعربي، فهذه ريما التي يقيم أهلها في طولكرم تذهب إلى عمّان للحصول على منحة دراسية، لكونها من أوائل الثانوية العامة، فتلتقي خالد، وهو ابن واحدٍ من كبار الوجهاء والملاكين الزراعيين في محافظة جنين، فيترك كل شيءٍ وراء ظهره ليلتحق بفصيل فدائي، وبواحدة من أكثر المهمّات دقة وحساسية، وهي الإشراف على بناء قوات إسناد الداخل في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.

كان ارتباط الحبيبين والتحاقهما بالثورة الصاعدة مثلهما مثل آلاف الفلسطينيين من أبناء جيلهما أمراً تلقائياً ومسلّماً به

كان ارتباط الحبيبين والتحاقهما بالثورة الصاعدة مثلهما مثل آلاف الفلسطينيين من أبناء جيلهما أمراً تلقائياً ومسلّماً به، ومفهوماً حتى من العائلات المحافظة والمتنورة على السواء، فالهزيمة القاسية عصفت بأركان المجتمع الفلسطيني، وهزّته هزاً عنيفاً، وشتّت الأُسر وأبناءها، وكان نصيب ريما الإبعاد عن الوطن لمجرّد حيازتها "منشوراً". أما خالد، صاحب التجربة المحدودة في حركة القوميين العرب قبل الهزيمة، فقد اختار بكل وعي التسلّل من الوطن خفيةً للالتحاق بالفدائيين ومعسكراتهم في الأردن، حيث يختار المجال الأثير إلى قلبه وطابعه العملي والكتوم، وهو العمل العسكري، فآثره على كل أشكال العمل السياسي والجماهيري والنقابي، وحتى على الدراسة الجامعية.

تدفع أحداث أيلول (1970) في الأردن والصدام بين النظام والمقاومة كلاً من خالد وريما إلى التوجّه مع الفدائيين والمنظمات إلى دمشق. وهناك تتواصل فصول قصتهما الشخصية فيرتبطان بعد حفل شديد البساطة والتقشّف، ما يذكّر بالأحوال التي كانت عليها الثورة ومنتسبوها في بداية السبعينيات وقبل الطفرة النفطية، عرس بحضور بضعة أصدقاء ومندوبين عن العائلتين، لا ثوب زفاف ولا ملابس رسمية، ومن دون شهر عسل أو حتى إجازة للفدائي المتكتّم على مهامه السرية. لا تعرف ريما بالضبط طبيعة مهامّ عريسها، ولكنها تدرك حساسيتها وخطورتها من همهمات المحيطين، ومن غياباته المفاجئة في بلاد ووجهات سفر لا تعلم عنها شيئاً إلا لاحقاً.

يبدو كل شيء متقشّفاً إلا الحب، تعزّزه تفاهماتٌ على تقسيم العمل المنزلي والتعاون في بناء الأسرة، تحمل الثورة معها بعض التغيّرات التقدّمية في المفاهيم والقيم الاجتماعية، بما في ذلك العلاقة بين الرجل والمرأة والموقف من بعض الطقوس المجتمعية. يتمكّن خالد من تفصيل سرير لغرفة الزوجية من بقايا صناديق الأسلحة والذخائر الخشبية المطبوعة عليها كلمات بحروفٍ روسية كبيرة، ويتكفّل الأصدقاء والأهل باستكمال بعض اللوازم والأمتعة الضرورية لأي منزل، لكن القلق يظل سيّد الموقف، خصوصاً مع غيابات خالد المفاجئة، ودأبه على السهر المتأخر، عاكفاً على قصاصات ورقية يستخلصها من "كبسولات" هُرّبت من داخل الأرض المحتلة في أمعاء المسافرين.

شكّل اغتيال خالد في التاسع من يونيو عام 1986 انهياراً لعالم ريما وعوالم المحيطين به

يبدو الحدث الذي كان متوقّعاً في كل يوم وفي كل لحظة خيالياً وعصياً على التصديق، حين يقع بالفعل، تتناقل الإذاعات ووسائل الإعلام خبر اغتيال مسؤول فلسطيني في أثينا. لا تمضي ساعات حتى يتبيّن أنه خالد، تمكنت منه فرقة اغتيالات إسرائيلية كان أفرادها الأربعة يحملون جوازات سفر أرجنتينية. يرتب الرفاق والرفيقات طريقة جماعية لإبلاغ ريما التي أدركت الأمر من هيئاتهم الواجمة وسحناتهم الغربية في ذلك الصباح المشؤوم. تقوم الزوجة "الأرملة" بما ينبغي عليها القيام به من مشاركة في طقوس العزاء والجنازة وملابس الحزن السوداء، والتماسك الظاهري الذي يليق بزوجة شهيد اغتيل وهو في السابعة والثلاثين من عمره، لكن عالمها الداخلي يأبى التصديق، كيف لذلك كله أن ينهار دفعة واحدة؟ أين ذهبت أفكار خالد ومشاعره وضحكاته وحيويّته وحضوره الطاغي؟ تخاطبه قائلة "هل حقاً أنت ميت، هل مات الرجل القوي، هل اضمحلّ جسدك، وهل ماتت الفكرة في رأسك، هل تنتهي وتتبدّد الملفات المعقدة؟". كلها أسئلة تحضر بالمعنى الشخصي والسياسي الجماعي، بمعنى غياب جسد الشهيد والحضور الدائم لرسالته أو التنكّر لها. وهكذا تقرّر ريما الانتقال إلى عمّان قريباً من الوطن المحتل والعائلة، وتتعهّد لابنتها وابنها الذي لم يدرك ما جرى بعد، بأن تكتب لهما حكاية والدهما وتعرّفهما عليه.

شكّل اغتيال خالد في التاسع من يونيو/ حزيران عام 1986 انهياراً لعالم ريما وعوالم المحيطين به، ومنهم والده الحاج أحمد الذي تصوّره السيرة رجلاً عظيم الشأن، يبدو، بمظهره وسلوكه، وكأنه قُدَّ من صخور بلدته قباطية. لكن هذا الجبل الشامخ يتصدّع وينفطر ألماً حين يرى حفيده غيث ابن العامين وقد ورث عن أبيه لون عيونه وبعض صفاته الجسمانية. أما ريما فكان خيارها الصمود والتماسك، وهي تعترف أن خالد، حيّاً وشهيداً، بعث فيها طاقاتٍ مميزة، وأطلق قلمها، فدأبت على كتابة رسالة شهرية إليه، واظبت عليها منذ 37 عاماً، تناجيه وتناقشه وتشكو همومها وهموم الشعب، وتستفتيه فيما يحصل، وقد حصلت بالفعل تطوراتٌ وتغيراتٌ كثيرة غيّرت خريطة المشهد الفلسطيني، وبدت كما لو أنها انحرافٌ كبير عن رسالة الشهداء ووصاياهم.

تتوالى التغيرات والتطوّرات بعد اغتيال خالد بسنوات قليلة، حيث بدأت مسيرة مدريد أوسلو، فتعود ريما مع من عاد من كوادر منظمة التحرير الفلسطينية، وتكون صدمتها الأولى بلقاء الضباط والجنود الإسرائيليين على الجسر، ليفتشوا أغراضها وضميرها ويفحصوا أهليتها للدخول إلى وطنها. يبادر أحدهم للسلام عليها، ويسألها بسماجة عن زوجها أين هو، تحاول أن تنظر في عيونهم لعلهم من القتلة، ويكون طيف خالد قد ارتسم في عيونهم: زوجي شهيد وأنتم تعلمون ذلك - شهيد؟ من قتله؟ - أنتم.

أيّ حبّ هذا الذي تترصّده فرق الاغتيال الإسرائيلية كلّ يوم، وتواظب الزوجة فيه يومياً على تفقد زوجها حين ينام؟

تتوالى المفاجآت، وأبرزها مشهد المستوطنات الغريب، والمظاهر الشكلية للسيادة الفلسطينية الوهمية على المعبر، والوطن مقطّع الأوصال، وهو حتماً ليس الوطن الذي عمل خالد ورفاقه لتحريره. وهنا يصرخ في قلبها هاجس مؤرق: كيف تعود من دون خالد، هنا تبلغ سيرة ريما إحدى ذراها المثيرة للقشعريرة بأنها سوف تحمله معها أينما ذهبت. "أحملك في حدقات عيوني، أحملك إلى كل الأماكن والناس والحكايات التي أمرّ بها، سنتعرف معاً على كل ما في هذه البلاد من قصص، وسنمر معاً بكل المدن والقرى والسهول والسفوح والجبال والكروم والبيارات والينابيع والمساجد والكنائس والآثار القديمة، سنزور معاً قبر الحاج أحمد نزّال الوالد الذي مات كمداً متحسّراً على فقدك".

تُسهب ريما في شرح معنى الفقد، خلافاً للشائع من المعاني والمفاهيم بأن الفقد خسارة تحصل مرّة واحدة، وربما تلتئم الجراح بعد حين، ولعل استمرار شلال الدم الفلسطيني هو الذي حوّل الموت والاستشهاد إلى حدث يومي وعادي، لا كهزّة أرضية عنيفة كما تظهره هذه السيرة بتعداد (وشرح) أشكال معاناة الزوجة والأولاد والأسرة في كل مجالات حياتهم، وما يزيد من شعور المرارة، وهو ما نستشفّه من بين سطور هذه السيرة وجود نوع من الخلان والتنكّر لتضحيات الشهداء، بنسيانهم ونسيان تضحياتهم، وخضوع طريقة تعامل المجتمع والسلطة والفصائل مع الشهداء وذكراهم بنوع من نظام الكوتا الفصائلية والمجاملات التي تُجحف بحقّ الشهداء وأسرهم.