رمزية أحمد الخطيب وعبدالله النيباري
عندما وصلت إلى حفل تأبين أحمد الخطيب الذي أقامه "المنبر الديمقراطي" في مقرّه في ديوان عبدالله النيباري في الكويت قبل أيام، اخترتُ أن أجلس بالقرب من صورة مميزة للخطيب مع النيباري. لا أدري إن كانت الصورة من الأجزاء الدائمة للمكان أم علّقت لتكون فقط جزءا من المناسبة، لكن الغريب أنها أصبحت بعد ساعة ونصف الساعة تقريبا على بدء التأبين هي نفسها عنوان التأبين وملخّصه أيضا. وأظن أن أعين الجميع اتجهت نحو الصورة، عندما أُعلن عن نبأ رحيل النيباري من على منبر تأبين الخطيب قبل أن ينتهي الحفل. كانت لحظةً حزينةً ومثقلة بالأسى، ولكن أيضا، من جانب آخر، كانت لحظة عالية الرمزية ومثقلة بدلالاتها التي استشعرناها، نحن المشاركين فيها، إذ أصبحنا، وحيث لم نحتسب ولم نخطّط، شهودا على حدثٍ قلما يتكرّر، مع أنه عادي جدا؛ فمن الطبيعي أن يكون النيباري برفقة الخطيب، هكذا كانا في الحياة الدنيا، في النضال وفي البرلمان، وفي الفكر والتوجه، وفي المنبر الديمقراطي، وهذا هو العادي بالنسبة لهما ولنا. لكن، لأن الحدث صار في الموت فقد فارق عاديّته لينتج لنا رمزية جديدة.
ولمن لا يعرف عبدالله النيباري، هو أحد أهم رموز العمل الوطني في الكويت، ومن الذين رسّخوا معنى الرمزية السياسية، بعيدا عن شكلها التقليدي المتوارث والمتعارف عليه في وطننا العربي على الأقل. وللمرّة الثانية، يتكرّر الكلام عن هذا النموذج النادر في الرمزية السياسية خلال أيام، ذلك أن رمزية النيباري السياسية، كرمزية الخطيب، نابعة من عمق الشعب ومن طين الأرض، ومن مشاعر الجماهير بعيدا عن الزعامة ذات الطابع الأسري أو القبلي أو الزعامة التي تستمدّ قوتها من السلطة، وتترسّخ تدريجيا وطرديا بمدى علاقتها الإيجابية أو التبعية بالسلطة. وتلك هي الرمزية المعتادة لدينا غالبا إلا باستثناءات قليلة جدا كسرت المألوف في وقتٍ كان من الصعب فيه كسر المألوف، ليس لأنه كان من الصعب مجابهة السطة بقوانينها المعلنة وغير المعلنة وحسب، ولكن أيضا وأولا لأنه كان من الصعب مجابهة المجتمع النمطي الوارث قيمه العامة ومعاييره الرمزية بالنسبة لتمجيد الأشخاص وفرزهم زعماء أو رموزا أو على الأقل كنماذج عالية القيمة. وقيمة الخطيب والنيباري، تحديدا، أنهما فَعَلا ذلك بصيغة السهل الممتنع، فقد اخترقا صورة الرمزية النمطية، وصنعا لنا رمزيةً جديدةً يهمنا أن نذكّر بها دائما، ويهمنا أن نستثمر كل فرصة للاحتفاء بها.
الاحتفاء بفكرة الرمزية الشعبية التي قد تنفرد بها الكويت على الصعيد الخليجي على الأقل، مهم جدا، بشرط ألا تتحوّل صيغة مثل هذا الرمز إلى صيغة مشابهة للرمز التقليدي السلطوي، فالرمز الشعبي يجب أن يبقى شعبيا قابلا للتفكيك وللنقد، وللرصد وللملاحظة، وقابلا كنموذج، وليس كشخص فقط، للمراجعة المستمرّة، ذلك أن مشكلتنا على هذا الصعيد في الوطن العربي، أو في الثقافة العربية المعاصرة، أننا بأيدينا نحوّل رموزنا إلى تماثيل حقيقية، أحيانا من الحديد الصلد الذي يصعب علينا تحريكه بأي اتجاه، وأحيانا أخرى تماثيل من التمر حيث يسهل التهامها. مع أن هذه الشخصيات الرمزية شعبيا عندما قرّرت أن تنخرط في العمل العام، وفي خدمة قضايا مجتمعها، لم تهدف إلى أن تصبح رموزا، بل كانت تعمل فقط على تحقيق أفكارها، وتحويل مبادئها إلى ممكنات على أرض الواقع.
وربما من المناسب أن يشار إلى أهمية فكرة الاحتفاء بالرمزية عبر الرثاء أو التأبين، لأنها تعني قراءة التجربة بالشكل المكتمل، فتجاربنا، بوصفنا بشرا، لا تكتمل إلا بالموت. والتجارب المجتمعية التاريخية تدلّنا على رمزياتٍ شعبيةٍ كثيرة تكونت لشخصيات سياسية أو فكرية كبيرة، لكنها لم تكتمل، لأن أصحابها لم يثبتوا على مبادئهم. والشعوب ذكية جدا، فهي تعرف تماما متى تسحب الامتياز الرمزي من الشخص الذي سبق أن منحته هذا الامتياز. وهذا يعني أن الرمزية الشعبية ليست موروثة، وبالتالي ليست دائمة، وهذه قيمتها الحقيقية. ومن هنا، تبدو رمزية الخطيب والنيباري، مرة أخرى، عالية، فقد بقيا دائما مخلصين وفيين لمبادئهما، حتى وإن تغيرت أفكارهما أحيانا. رحمهما الله.