دحلان وعباس والقاع الفلسطيني

16 مارس 2014
+ الخط -

يحظى محمد دحلان (52 عاماً)، وهو، للتذكير فقط، نائبٌ في المجلس التشريعي الفلسطيني، بأَرطالٍ من سوءِ السمعة، يراكمها منذ تأسيسه جهاز الأَمن الوقائي لسلطة الحكم الذاتي، في 1994، والذي تم تدشينُه بجولات تعذيبٍ قاسية، في أَقبيته، لمعارضين لاتفاق أوسلو، مروراً بثناء جورج بوش عليه، "قائداً جيداً وصلباً"، إِبّان حصار ياسر عرفات في رام الله، وليس انتهاءً باتهام النائب العام الفلسطيني له، في 2011، بالقتل والفساد، وصولاً إِلى رعاية الإمارات وحمايتها له، وتأمينها مكانةً خاصة له، تُيسّر له في أَبو ظبي لقاءً مع عبد الفتاح السيسي، بعد أَسابيع على لقاءِ الأَخير به في القاهرة.

مناسبة استدعاء هذا الإيجاز عن دحلان، هنا، ما أَضافه محمود عباس، وهو الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته كما يحسن التذكير، من اتهاماتٍ ثقيلة، تُضاعف مقادير سوءِ السمعة التي يرفل بها صاحب الجهد الأهم في التنسيق الأمني مع إسرائيل، في أَكثر أَطواره إِيذاءً للوطنية الفلسطينية المهدورة. ولا تعود الوطأة الثقيلة للاتهامات إِلى تلميحها إِلى ضلوعٍ ما لدحلان في تسميم عرفات وقتله، بل، أَيضاً، لأنها تأخذ الرجل إِلى قيعانٍ بعيدة في خيانةٍ عظمى مع إِسرائيل.

حدث أَنَّ فاروق القدومي، وهو من مؤسسي "فتح" كما هو معلوم، اتّهم عباس بدورٍ ما في اغتيال عرفات، ولم تُؤخذ تلك "الحدوتة" على محمل الجد، واعتُبرت، في حينها، شاهداً مضافاً على رداءَة الحالة الفلسطينية وتفاهتها.

ويمكن الزعم أَنَّ "دَبَّ" عباس صوته عالياً ضد دحلان، واستخراجه "شواهد" على "إِسرائيلية" خصمه الراهن وحليفه السابق، تأكيدٌ جديدٌ على رثاثةٍ بائسةٍ وفيرةٍ تقيم فيها الحالة الفلسطينية. ما لا يعني براءَةً مجانيةً ضد دحلان، وقد خلع عليه عباس، أَيضاً وأَيضاً، تهمة المسؤولية عن قتل إِسرائيل القائد السابق لكتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، صلاح شحادة، في يوليو/ تموز 2002، في جريمةٍ استشهد فيها، أَيضاً، عشرون طفلاً وامرأة في غزة.
 
ولمّا أَطنب الرئيس الفلسطيني، الخميس الماضي، في حديثٍ عن "ظاهرة الدحلان"، كما سمّاها، فإنَّ أَحداً لا "يشحط" الذئبَ من ذيله، إِذا ما قال إِن عباس نفسه أَحد أَبرز صُنّاع هذه الظاهرة، وإِنْ ليس بدءاً من إِلحاحه المستميت على عرفات من أَجل تعيين دحلان وزيراً للشؤون الأمنية في حكومته التي فُرضت، أَميركياً وعربياً و(إِسرائيلياً؟)، على عرفات في 2003، ثم فوَّضه صلاحياتٍ مطلقة في شؤون وزارة الداخلية التي أَسندها عباس، إِلى نفسه، في تلك الغضون. ومن عجبٍ مضاعفٍ أَنَّ هذا جرى بعد استشهاد شحادة ومَن معه في قصفٍ بقنبلة إِسرائيليةٍ، زنتها أَلف كيلوغرام (هل كان دحلان يعرف مسبقاً؟). وتزيد أَرطال العجب أَرطالاً من أَنَّ رئيس حركة فتح، أَي محمود عباس، دفع بقوة باتجاه نجاحٍ مؤزَّرٍ حازه دحلان عند انتخابه عضواً في اللجنة المركزية لـ"فتح"، في مؤتمر الحركة السادس في بيت لحم، وقد أَخفق فيها قياديون بارزون.

كان التحالف على أَشده بين الصديقين العضوضَين، دحلان وعباس، إِبّان حساباتٍ للاثنيْن بينها، ما يعني أَن الظاهرة التي تحدّث عنها الأخير، أمام المجلس الثوري لحركة فتح، ما كانت لتصير إلى ما صارت إليه لولا إِسنادها من ظهيرٍ قويٍ ونافذ في مرتبة رئيس فلسطين.
ولا يزيحُ التسليم بهذا الأمر قناعةً بأَنَّ ثمّة "شطارة" خاصة لدى طالب التربية الرياضية في جامعة القاهرة السابق، والمؤسس النشط لشبيبة "فتح" والأَسير خمس سنوات في سجون الاحتلال، وهي شطارةٌ استثمرها، لاحقاً، أَبو فادي، (الاسم الذي يحب أَنْ تناديه به جيزيل خوري، عندما تحاوره في "العربية")، في بناءِ تربيطات مع أَجهزةٍ إسرائيلية وأَميركية وسعودية وإماراتية ومصرية، صنعت منه ظاهرةً متورّمة في المشهد الفلسطيني الخربان، ليس بالمعنى الذي أَراده عباس، بل بالمعنى التقليدي المعهود في مسار مؤسسات منظمة التحرير والثورة الفلسطينية. فثمّة نتوءاتٌ سابقةٌ من طراز محمد دحلان، كانت تصل إِلى مراتب عليا في صناعة القرار الفلسطيني، مستندةً إلى هذا الظهير العربي أو ذاك الأجنبي.

ويجوز القول إِنَّ هذا الشاب، في صعوده الصاروخي، تطلَّع إِلى ما يفوق وضعَه نائباً منتخباً بأَعلى الأصوات بين مرشحي "فتح"، في محافظة خان يونس، إِلى رئاسة الفلسطينيين كلهم، وإدارة كل العلاقات مع الخليج وإِسرائيل وأَميركا. وتوهَّمَ أَنَّ أَلعاباً خطرةً وتحالفاتٍ زئبقيةً، هنا وهناك، تمكّنه من ذلك كلّه وغيره، من دون أَنْ يقف على بديهيةٍ لازمة، موجزها أَنَّ طرازاً آخر من الشطارة، شديد الضرورة في أَثناء مزاولة مثل تينك الأَلعاب والتحالفات، ويتعلق بكيفية النجاة من الاحتراق في أتونها.

نحدس أَن محمد دحلان، بظاهرته الراهنة ذات الامتدادات غير البعيدة في المؤسسة الفلسطينية الرسمية، سقط في وحل شطاراته المتورّمة، ويبدو مشهده في حالته الدفاعية عن نفسه، وهو يهدّد بكشف أَوراقٍ ووثائق تدين عباس، كاريكاتورياً، ولا سيما أَن أَوراقه ووثائقه كان منتظراً أَنْ يُشهرها لمّا دين باتهامات النائب الفلسطيني العام له في 2011، بالفساد والقتل، وقال إِنها بشأن مسؤوليةٍ على عباس عن أَموالٍ لحركة فتح، ولصندوق الاستثمار الفلسطيني، ضائعة، وأيضا بشأن هزيمة "فتح" في غزة.

وفي الجولة المستجدّة، بينه وبين عباس، يقول الكلام نفسه، ويتوعّد بالأوراق والوثائق نفسها. والبادي أَن الفلسطينيين، في أَثناء هذه المساجلة بين الرجلين، في انشغالاتٍ أُخرى عنهما، ولا سيما أَنَّ حالاً مخزياً يرون قضيتهم فيه، أَسقطتها فيه سياساتٌ وخيارات، صنعها ناسٌ جرى الظن طويلاً أَنهم مؤتمنون على القضية وشعبها، وهذا انقسامٌ جغرافي وسياسي بين جناحي الوطن، على ما تُسمّي الرطانة إِيّاها قطاع غزة والضفة الغربية، يستمر ويتعمّق، وجولات المصالحة مع "حماس" ومداولاتها على رتابتها، في تفاصيل قاعٍ فلسطيني يبتعد أَكثر وأَكثر، وجاءَت "حدوتة" عباس ودحلان، وفيها هذه المرة استثمارٌ لدماء الشهيدين صلاح شحادة وياسر عرفات، ما يزيد الأَسى الفلسطيني أَسىً.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.