خيوط للبحث عن مفقود في غزّة

خيوط للبحث عن مفقود في غزّة

22 مايو 2024
+ الخط -

من المشاهد المؤلمة التي لا أنساها في طفولتي، ذلك المشهد الذي بدأ بقدمين عاريتين لجثّة محمولة على أكتاف أربعة رجال أشدّاء، وقد تسلّموها من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهي لعامل فلسطيني قضى نحبه بكيفيةٍ غامضةٍ في أثناء عمله في ثمانينيات القرن الماضي في الداخل الفلسطيني المحتل، وقد اختفت آثاره عدّة أيام، حتى أُعلن عن العثور على جثّته وتمّ توصيلها لعائلته. وهكذا وضع الرجال الأشدّاء الأربعة الجثّة أمام جمع من النساء الباكيات المتّشحات بالسّواد، وصاح صائح من الرّجال يطلب من زوجته أن تتقدّم، وحينها تقدّمت امرأة شابّة نحيلة بوجهٍ تعلوه صفرة بائنة؛ فطلب منها أن تتعرّف إلى جثّة زوجها التي تشوّهت ملامحها تماما، وقد وصلت الجثّة عارية وملفوفة بغطاء أبيض، فتقدّمت الزّوجة من الجثّة، وأزاح الرجال الغطاء بطريقةٍ لا يسمح لأحد غيرها أن يراها، وساد صمتٌ كصمت القبور في المكان، حين ارتفع نشيج المرأة وقالت: إنّه هو، لقد عرفتُه من بقايا طلاء على قطعة ملابسه الداخلية الوحيدة التي ما زالت فوق جسده المنتفخ والمشوّه، وقد كان يعمل في الدّهان فعلا، ومن الطبيعي أن تكون زوجته التي تغسل ملابسه تعرف علامة مميّزة لجثّة مشوّهة بلا ملامح، وهكذا أزاحتها النساء عن طريق الرجال الذين حملوا الجثّة وتوجّهوا بها إلى مثواها الأخير.

من الطبيعي أن تقفز هذه الحادثة المؤلمة إلى ذاكرتي في خضمّ أحداث الحرب الطاحنة في غزّة، وحيث تتسلّل إلى مسامعنا وتغزو أبصارنا كثير من القصص المؤلمة عن طرق تعرّف الأهل إلى جثث أولادهم المفقودين والمدفونين في مقابر جماعية يُعاد نبشها لكي يتعرّف أهالي المفقودين إلى أبنائهم، ثم يُدفن كل واحدٍ على حدة، وغالباً ما تحمل كلّ جثّة لتدفن في مقابر العائلة، وحيث ما زال أهل غزّة يحرصون على تقسيم المقابر حسب القرى التي هجّروا منها، وليس حسب العائلة، ففي مدينة خانيونس مثلا، هناك مقبرة تقع في جنوبي غرب المدينة، ويتمّ فيها دفن الموتى حسب قراهم التي تحدّروا منها، ولأن المقابر متشابهة، فبمجرد وصولي إلى المكان، أسال بعض الأطفال العابثين عن مقبرة أهل قرية حمامة، فيشيرون بأيديهم مجتمعة إلى مكانها، وقرية حمامة هي مسقط رأس جدّي، وهي قرية صغيرة بالقرب من مدينة المجدل.

ومن الحكايات المؤلمة عن رحلات العذاب التي يخوضها الأحياء بحثا عن مفقودين؛ حكاية الأخ الذي تعرّف إلى جثّة شقيقه في أحد مشافي غزّة، من خلال جرح غائر في ساقه تركه حادث طرق تعرّض له عندما كانا يلهوان بدراجة هوائية غير عابئين بالسيارات المسرعة، وكأنهما في صراع مع زمان ومكان، يدركان جيّداً أن أعمارهما فيهما قصيرة، أما شقيق آخر، فقد تعرّف إلى جثمان شقيقه من الجوارب الممزّقة التي كان يرتديها، وكانا يتبادلان ارتداءها لشدّة فقرهما، وهناك إحدى الأمّهات التي استطاعت التعرّف إلى جثّة ابنها من خلال ما يعرف عند العامّة بـ"الوحمة"، ويفسّرها الأطباء على أنها تجمّع دموي في مكان ما، فقد صرخت أمام جثّة ابنها بأنّها قد عرفته من الوحمة فوق كتفه الأيسر.

وفي حادثة مؤلمة عن ابن مفقود ما زال على قيد الحياة؛ حيث بثت "سي أن أن" تقريرا لسجنٍ سرّي للفلسطينيين الذين جرى اعتقالهم واحتجازهم فيه خلال الحرب الدائرة في غزّة، ومن خلال صورة أحد المعتقلين تمكّنت عائلة المعتقل من التعرّف إلى ابنها المفقود، وهو إبراهيم سالم، الذي ظهرت صورته غير واضحة، ومرّت على اختفائه خمسة أشهر، وبعد رحلة بحثٍ مُضنية، وقد استطاعت شقيقتُه التعرّف إليه بالإشارة إلى إصبع قدمه، والذي أجرى فيه عملية جراحية تركت أثرا لا يلحظه الغرباء، ولكن أفراد عائلة الشاب يعرفونه جيدا.

إن كانت أدلّة البحث الجنائية في العالم تستطيع التعرّف إلى جثث مجهولة، وعلى أبناء غائبين بتقنيات علمية حديثة ليس آخرها بالطبع فحص الحمض النووي من خلال أيّ عيّنة من الجسم مهما بلغت ضآلتها، فإنّ لدى أهل غزّة طرقهم للتعرّف إلى أبنائهم مهما مرّ الزمن، ومهما حاول الاحتلال طمس كل معالم الطرق للوصول إليهم أحياء وأمواتاً، فهناك طرق خاصّة تنافس العلم كالحب وتشارك الفجيعة نفسها.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.