حرّاس المعابد

23 ديسمبر 2022

(موتوكو تاتشيكاوا)

+ الخط -

يقول نابليون: "لن يذهب بعيداً من يعرف مسبقاً أين يذهب". بينما يحثُّ الرأي الشّائع على معرفة الوِجهة قبل المسير. يبحث الرّأي الأول عن المعرفة التي تحدّدها الاحتمالات، ويقودها الفضول، والثاني عن اليقين، ويقوده الخوف. لكن ماذا عن رفاق الرّحلة؟ هذا أبرز سؤال للقادم، فلا أحد يأتي وحده طالما جاءَ في وسيلة نقل عامة، يرافقه فيها أفرادٌ أو عشراتٌ أو مئات منهم. وتُصبح جودة الرّحلة رهينة بمرافقيه، وبمدى الضّجيج الذي يُصدرونه خلال الرحلة، واحترام الصف، والمساحة الشّخصية.
في الحياة المِهنيّة، سيجد المرء نفسه أمام أشخاصٍ يحيكون الدّسائس كجزء من الرّوتين اليومي. فقط لأنّه مستجد، خوفاً من أن يشكّل خطراً على مكانتهم. عليه، أولاً، تقديم فروض الولاء، ثم القيام بمهام من أجلهم. ربّما بهذه الطريقة، قد ينجو من الكيد، والضّغينة، فزملاء كثيرون في العمل والدراسة والوسط العائلي يميلون إلى حماية منطقتهم من الدّخلاء المحصورين في العناصر الجديدة. رغم أنّهم لا يملكون السّاحة ولا مفاتيحها. لعل هذا ما يغيظ من يمكن تسميتهم حرّاس المعابد، ممن يمتلكون سلطة وهمية في مجال، ويُزعجهم ظهور عناصر جديدة. ما لم تمرّ هذه العناصر عبرهم، وما لم تقدّم فروض الولاء، وتطلب الإذن لدخول المعبد، وعدم تجاوز الحرّاس، أو تهديد سيطرتهم بالسُّطوع المبالغ فيه أو التفوق.
في كل مجال، يقف حرّاس يعنّفون من يدخل المجال. ويعاملونه مثل الموظف المستجدّ، يُنظَر إليه باستخفاف، حتى يتجاوز أقدمية عشرين سنة. حينها، له الحق في الاحترام، لأن الحرّاس سيتقاعدون على مهلهم، ولهم أسبقية العمر على الذين جاؤوا من بعدهم. قد يكون حرّاس المعابد من الكسالى، الذين لا يحبّون بذل الجهد، ويخشون أن يكشفهم الآخرون، إذا قاموا بالعمل الشّاق الذي يتفادونه هم. لذا على العُنصر المُستجِد تخفيض مستواه، حتى يطمئن إليه حرّاس المعابد، ولا يعاملوه معاملة العدو، فمعظم النّاس يفضّلون الحصول على الأشياء بمقابل منخفض، من غير أن يدفعوا ما تستحقه، من وقت وجهد وهمّ. وبذلُ آخرينَ وقتهم وجهدهم يجعلهم أعداء لهم.
غالباً، تجد هذه النماذج في كلّ مكان، والأمر لا يتوقّف عند مجال محدّد، في الحياة وفي الكتابة، والفنون. تحكي سيمون دي بوفوار عن الكتاب الإيطاليين، غير المتحابين بينهم، في عصرها. من ذلك، أن كاتباً منهم "جلس قرب سارتر وهمس له: سوف أسألك بصوت مرتفع: من هو في رأيك أكبر روائيينا؟ وستجيب: فيتوريني. سترى عندها هيئة ألبرتو مورافيا". رفض سارتر هذا الطلب، حسب سيمون دي بوفوار التي تكمل روايتها عن الأجواء السّائدة في الوسط الثقافي في إيطاليا، أنه حين يُذكر اسم زميل غائب، كانوا يحكمون عليه بصيغتين: "أنه ليس أديباً بل صحافي"، و"أن مأساته أنه لم ينضج". "فكان كل منهم يعكس للآخرين صورة نفسه التي يلتقطها في عيونهم". ولعل هذا من أبرز التفاسير التي قُدّمت للتنمّر. أن تحاول تغطية عيوبك التي تعرف أن الآخرين يلتقطونها، بأن توجّه المرآة نحو شخصٍ آخر من مجالك.
لذا لقي كتّابٌ التجاهل في حياتهم من مجايليهم، وحالما يرحلون يصبح الجميع أصدقاء لهم. بينما يتمنّى الكتاب الحقيقيون معاصرة قدواتهم، ممن يفوقونهم موهبةً أو جهداً. مثلما اعترف هنري ميللر في كتابه "الكتب في حياتي"، بأنه صُدم مراراً بحقيقة أنّ كتابا أو فنانين، عديدين، يكنّ لهم الإعجاب، أنهوا حياتهم في الوقت الذي ولد فيه (رامبو، فان غوخ، نيتشه، ويتمان ...) فبينما كان هو يشقّ طريقه خارج الرّحم محتجّاً كانوا هم يستقرّون ليرتاحوا. وكان عليه أن يكرّر كل ما حاربوا وماتوا لأجله، بطريقةٍ أو بأخرى. و"لا شيء من تجربتهم وحكمتهم في الحياة وتعاليمهم، ورَثته بفضل أسبقيتهم المباشرة"، بل كان عليه أن ينتظر عشرين أو ثلاثين أو ربما أربعين سنة، قبل أن يسمع أسماءهم تذكر.
معاصرة من هم أفضلُ منك تجعلك أفضل لا أقل، فالمراحل الكبرى في تاريخ الإنسان حدثت بسبب معاصرة شخصيات كبيرة بعضها بعضا، في الأدب والفن والسّياسة والاقتصاد. واتسمت مراحل الانحطاط بمعاصرة شخصيات صغيرة الطموح، ضئيلة الجهد لبعضها البعض. وحتى لو ظهرت طفرات فسرعان ما أطفأ ضوءها حرّاس المعابد الذين لا يسمحون بأيّ ضوء قد يُنهي عَتمتهم.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج