جسد يحترق في واشنطن... وقطار التطبيع يسير

جسد يحترق في واشنطن... وقطار التطبيع يسير

03 مارس 2024

يرفعون رسما لآرون بوشنل أمام قنصلية إسرائيل في إلينوي غرب أميركا (29/2/2024/الأناضول)

+ الخط -

"لا يهمّني أين ومتى سأموت، لكن يهمّني أن نملأ العالم ضجيجاً حتى لا ينام العالم بكل ثقله على أجساد المظلومين"... أرنستو تشي غيفارا.

لم تعُد هناك مفرداتٌ تكفي لتعبّر عن الصدمة... الألم... الوجع... الغضب... من استمرار اغتيال الإنسان الفلسطيني في غزّة، فاختار الجندي الأميركي، آرون بوشنل، إشعال النار بجسده، لأنه لم يعد يحتمل مشاركة بلاده في الجريمة، ولا صمت العالم، ولا العجز عن إيقاف نزف الدم أمام الكاميرات. والشعور بالعجز قاتل، لكن، لم يكن العجز وحده دافع بوشنل لاختيار عذاب النار، وإنما أراد أن يرفع صرخة أقوى من كلماتنا، في وجه كل مسؤول عن مجزرة الإبادة، أراد إزعاج العالم بضجيج صرخة "فلسطين حرّة".

التقط الإعلام الغربي الرسالة، ولكنه خاف من معناها، فحاول التشويش عليها، لأن مهمته إخفاء نضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرّر والحرية، فتوارت الحقيقة عن معظم العناوين، ليصوّروا بوشنل وكأنه أصابته لوثة مفاجئة، وقرّر حرق نفسه.

هل كان بوشنل يعرف أن دولاً عربية قد تندّد وتشجب بأقسى الكلمات؟ وقد تكون صادقة في تصريحاتها، لكن بشرط ألّا يمسّ ذلك العلاقة مع إسرائيل التي لا تهزّها مثل هذه المواقف طالما أن مصالحها لن تتأذّى، فالتطبيع مستمر، وهناك وعد أميركي باستكمال حلقاته، حتى لو مُحِيت غزّة وأبيد أهلها، وإن كانت واشنطن لا تؤيد محو غزّة بالكامل، لا خوفاً على حياة أهلها، بل خوفاً من عرقلة قطار التطبيع.

الخطابات في المحافل الدولية، على أهميتها في التأثير على الرأي العام العالمي، لا تكفي

هل تفهم الأنظمة العربية أن إحدى وسائل وقف الحرب وقف التطبيع، وللدقّة: قطع علاقتها مع إسرائيل؟ لكن الكل يدور ويلتفّ ويتحدّث ويصرّح، وليس مستعدّاً لحظة للمسّ بمصالحه مع الكيان الذي يستكمل عملية إبادة ممنهجة ضد الفلسطينيين. وأقبح ما يحدُث أن المجازر والتجويع وحرمان العلاج والدواء لا تحرّك الرحمة في قلوب النظام العربي الرسمي، فالجميع فهم شروط اللعبة؛ فواشنطن تقبل، ولو على مضض، ذهاب دول عربية إلى محكمة العدل الدولية وتبنّي مشاريع قرارات أممية سيُحبطها الفيتو الأميركي، بشرط عدم الاقتراب من التطبيع "المقدّس" مع إسرائيل.

الخطابات في المحافل الدولية، على أهميتها في التأثير على الرأي العام العالمي، لا تكفي، خطاب الملكة رانيا العبدالله مثلاً أدخل غزّة إلى قمة الويب العالمية في الدوحة. ولكن، من دون خطوات عملية حقيقية لوقف التطبيع مع إسرائيل لن يتغيّر مسار الحرب، والمسار الأميركي الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية، ودمج إسرائيل في المنطقة وكأنها دولة أصيلة لم تُقَم على تدمير قرى ومنازل واقتلاع أشجار وتشريد شعب. والأخطر بعد أن تكون قد قطعت شوطاً في حرب إبادتها للشعب الفلسطيني. هذه هي الحقيقة، ولا يمكن تجميلها أو الالتفاف عليها، فواشنطن بكل وقاحة تدفع إلى التجهيز لتطبيع سعودي إسرائيلي، بعد أن اطمأنّت إلى هزال ردّ الفعل العربي، وبكلمة أدقّ، استنتجت أنها تستطيع احتواء الغضب العربي، وإنْ كانت تخشى كل يوم من جريمة إسرائيلية جديدة تعكر صفو مجرى التطبيع.

استرخاص الدم الفلسطيني ليس الجريمة الوحيدة للتطبيع؛ فالخطر يحدّق بمستقبل الشعوب العربية أيضا

صحيحٌ أن واشنطن توترت بعد الفخ الإسرائيلي بإطلاق النار وقتل أكثر من مائة فلسطيني حضروا لاستلام المعونة، فامتزجت دماؤهم بأكياس الطحين التي كانوا ينتظرونها ويأملون بلقمة خبز تخفّف جوعهم، لكن توترها لم يترجَم حتى إلى تحميل إسرائيل وزر الجريمة، ولماذا تفعل ذلك ما دامت مشاريع التطبيع لم تتأثر ولن تتوقف؟! كيف يمكن التوفيق بين تصريحات الإدانة العربية الرسمية وإقامة جسر برّي بين الخليج العربي وإسرائيل عبر الأردن لتعويض التأخير في نقل البضائع بعد ضربات الحوثيين سفن الشحن المتجهة إلى إسرائيل؟

شواهد تتحدى مشاعر الأردنيين، من أنبوب غاز اخترق أراضيهم عنوةً إلى مشروع بوابة الأردن لربط دولة الاحتلال بالأسواق العربية، إلى حديقة الإيكو بارك، التي تتذرّع بحماية البيئة لتبرير التعاون مع إسرائيل. وذكر الأردن هنا لا يعني تبرئة دول عربية تمادَت إلى حدّ استقبال المستوطنين والتنكّر لحقوق الفلسطينيين، لكن الأردن هو الأقرب إلى فلسطين، والأردن هو المستهدف الأكبر من اليمين الصهيوني المتطرّف الذي يحكم إسرائيل، خصوصاً أنه يتحرّك بدعم مجتمعٍ انزاح إلى أقصى اليمين.

هناك دول أبعد جغرافياً تمادت في التطبيع الثقافي إلى درجة تبنّي الرواية التاريخية الصهيونية، لا بد من أن نقلق عليها، ومنها أيضاً، فإسرائيل لا ترى سوى النفط وأموال النفط، بكل غطرسة ووقاحة إلى درجة أنها تريد تحميل هذه الدول العربية الغنية، المنخرطة في تطبيع "تحالفي" مع تل أبيب، أو التي تقترب من ذلك، مهمّة إعادة بناء ما دمّرته آلتها العسكرية في غزّة وبشروطها، فهي ترفض أن تتحمّل شيئاً، فهذا أحد "منافع" التطبيع.

نستطيع أن نُقلِق الأنظمة والعالم بضجيجنا ونواجه التطبيع الذي هو امتدادٌ للعدوّ الذي يقتل شعبنا في فلسطين ويهدّد مستقبل أوطاننا

ألا يدرك المسؤولون العرب أن التطبيع غطاءٌ لجرائم إسرائيل؟ وأنه، بعد حرب الإبادة غير المسبوقة، أصبح جائزة لها ويغسل جرائمها ويستخفّ بالدم الفلسطيني؟ فكل شيء يرخص أمام استمرار التطبيع الذي أصبح شرطاً لشرعية الأنظمة في نظر واشنطن وتأمين رضاها ومباركتها. واسترخاص الدم الفلسطيني ليس الجريمة الوحيدة للتطبيع؛ فالخطر يحدّق بمستقبل الشعوب العربية، وإذا لم تكن الأنظمة تهتم لذلك، فلتهتم على الأقل بمستقبلها؛ فإسرائيل خلعت كل الأقنعة؛ إذ لا يمكنها الحفاظ على استمرارية المشروع الكولونيالي الصهيوني دون استهداف العرب وكل من يقف في طريقها. ولا يمكن التقليل من خطر التطبيع ومن أهمية إيقافه بوصف هذا جزءاً أساسياً من مواجهة التمدّد الصهيوني والضغط لوقف جريمة نشهدها يومياً ونكاد بشللنا نصبح مشاركين فيها.

خرج مئات الألوف في العالم إلى الشوارع وتحدّوا واشنطن وإسرائيل، إلا في العالم العربي. صحيح أن هناك قمعاً واعتقالات، غير أني أظن أنّ خروج الناس بالآلاف وسط عمّان والقاهرة وكل العواصم العربية، وأن تتقدّم النخب (التي لا تكلّ من التنظير في الغرف المغلقة) المسيرات السلمية، سيُحرج الأنظمة ويدفعها إلى اتخاذ مواقف أشدّ جرأة. وواشنطن تراقب، وسكوننا يريحها. هي تعتمد جزئياً على قمع الأنظمة، لكنّ للقمع حدوداً لا تستطيع الأنظمة تخطّيها، وعدم تحمّله لا يعفينا من المسؤولية ويجعلنا مُدانين.

لجأ آرون بوشنل إلى تعبير متطرّف في قسوته على نفسه بإحراق نفسه حيّاً، مطلقاً صرخة "فلسطين حرّة"، مكابراً على ألمه وهو يذوي. واجهنا آرون بحقيقة تقصيرنا وجمودنا، فيما تستمرّ أنظمة في التطبيع، أي جعل ما هو غير طبيعي من إجرام واحتلال "طبيعياً ومقبولاً"، ليس المطلوب أن نحرق أنفسنا، ولا أعرف إذا كنا نملك ذرّة من شجاعة آرون. لكننا نستطيع أن نُقلِق الأنظمة والعالم بضجيجنا ونواجه التطبيع الذي هو امتدادٌ للعدوّ الذي يقتل شعبنا في فلسطين ويهدّد مستقبل أوطاننا.