ثلاث حقائق ديمغرافية فلسطينية لافتة

ثلاث حقائق ديمغرافية فلسطينية لافتة

21 مايو 2024

(نبيل عناني)

+ الخط -

في غمرة حرب الإبادة الجماعية على غزّة، وما تستقطب من اهتماماتٍ، يغدو من المنطقي ألا تلفت أنظارَ المتابعين للشأن الفلسطيني أيُّ واقعة أو قصّةٌ إخبارية تقع خارج المجرى الرئيس للمقتلة المتواصلة في القطاع المُحاصَر، بما في ذلك التقرير السنوي الصادر عشية الذكرى الـ 76 للنكبة عن الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، رغم أهمّية المُعطيات الديمغرافية الواردة في هذا التقرير المُستفيض، وبلاغة دلالاتها السياسية للمشتغلين في مجال البحث والتأريخ والصحافة وعلوم الاجتماع، نظراً إلى غزارة المادّة الإحصائية المُتعلّقة بتطورات وضع الشعب الفلسطيني في الأراضي المُحتلّة.
ما نحن بصدده، في هذه القراءة الانتقائية، هو الإضاءة على بعض الحقائق الديمغرافية، المُتعلّقة، ليس بالواقع الفلسطيني المُهدّد تاريخياً بالتهجير فقط، سيّما من قطاع غزّة، اليوم، وإنّما أيضاً، بما يشفّ عنه هذا الواقع المُتغيّر من نتائج سياسية، ذات صلة وثيقة بجوهر الصراع التاريخي مع دولة الاحتلال، والاستئصال والاستيطان، إذ كانت المسألة السكّانية تُشكّل، إلى جانب مسألة الأرض، أُسّ الصراع المُحتدِم، جيلاً بعد جيل، مع المشروع الصهيوني القائم على مبدأ القوّة الغاشمة، وفِكَرِ المُصادرة والتطهير العرقي والإحلال.
من بين فيض المعطيات الإحصائية المُهمّة، الواردة في هذا التقرير الطويل، نتوقف عند ثلاث حقائقَ ديمغرافيةٍ لافتةٍ في هذه اللحظة السياسية المُفعمة بالمخاوف العميقة، فضلاً عن الهواجس والمصاعب والتحسّبات. أولاها، من حيث الأهمية، عدد الفلسطينيين في العالم، البالغ نحو 14 مليوناً و630 ألف نسمة، حتّى نهاية 2023، أي أنّهم تضاعفوا نحو عشر مرّات، رغم كلّ ما تعرّضوا له، على مدى 76 سنة، من صنوف ترويع وترهيب ومجازر وإجرام، دفعوا خلالها نحو 134 ألف شهيدةٍ وشهيدٍ، ومرّ أبناؤُه وبناتُه في نحو مليون حالة اعتقال، من دون احتساب مقتلة غزّة المُستمرّة. وهذه حقيقة كبيرة في حدّ ذاتها، ومن أهم المُعطيات فوق الديمغرافية، التي لا تمُحي، مهما اشتدّ القمع والقهر، ولا يمكن إسقاطها من الحساب مهما طال زمن الاحتلال، ولعلّ فشل تهجير الغزّيين، بعد نحو ثمانية أشهر من القتل والتدمير والتجويع، وكان ذلك أكثر أهداف العدوان أهمّيةً، أبلغ دليل على مدى تمسّك الفلسطيني بأرضه ومسكنه، ولو كان ركاماً فوق ركام، الأمر الذي أسّس قاعدةً وجودية غير قابلة للكسر، قاعدة وفّرت الأرضية المواتية لإدامة الكفاح الوطني، وتصعيده باقتدار، لاسترداد الهُويّة بعد طمس وتبديد، لإعادة بناء الذات ومراكمة رأس المال الثقافي، ومن ثمّ إطلاق الثورة من فوق بساط الريح.
الحقيقة الثانية ماثلةٌ، أساساً، في تجذّر نحو خمسة ملايين و550 ألف نسمة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، إلى جانب مليون و750 ألفاً في أراضي 1948، رغم تهجير واقتلاع نحو مليوني مواطن في 1948، ونحو مائتي ألف في حرب 1967، مقابل نحو ستّة ملايين ونصف مليون لاجئ في الدول العربية، و772 ألفاً في العالم، أي أنّ العدد المُقيم في فلسطين التاريخية كان يبلغ، حتّى نهاية السنة الفائتة، نحو سبعة ملايين و330 ألفَ نسمة، ليسوا كمّية سكانية، وإنما شعبٌ من سويّة اجتماعية حسنة، وثقافة ديمقراطية فوق متوسّطة، وتجربة نضالية متنوّعة، وفوق ذلك، مؤسّسة كيانية تمثيلية مُعترفٍ بها دولياً.
مقابل هذه الحقيقة الديمغرافية الفلسطينية المُتحقّقة بفضل النمو الطبيعي، هناك نحو سبعة ملايين ومائتي ألف يهودي تكاثروا بفعل الهجرة المُنظّمة من الخارج، وكانت موجة الهجرة من الاتحاد السوفييتي أعلاها في العقود الأخيرة، وهو ما يعني رجحان وزن الفلسطينيين السكّاني، للمرّة الأولى منذ النكبة، على وزن المستعمرين الصهاينة، وهذه حقيقة ثالثة بالغة الدلالة التاريخية، وعظيمة الأثر في السياق الطويل لهذا الصراع، ومثيرة للانطباع بالنسبة لكلا الجانبيْن، سواء على المدى المتوسّط أو على المدى الطويل، سيّما أنّ عدّاد اليهود في العالم أصبح أقلّ من تعداد الشعب الفلسطيني، في داخل البلاد وفي خارجها. والحبل على الجرّار. ويزيد من أهمية هذا الانقلاب في الميزان السكّاني، ويُعظّم من شأنه لدى الفلسطينيين، الذين لم يعودوا مُجرّد كمّية سكّانية، أنّ هذا الصراع المُحتدِم، أكثر فأكثر بمرور الوقت، وفي كلّ صعيد، من المُرّجح له أن يختلّ بصورة أشدّ في المدى المنظور، وأن يبرُز إلى العيان على نحو أوضح من ذي قبل، وتتجلّى تداعيات "طوفان الأقصى" للعيان، ويتضح مدى وطأة الهزيمة الصهيونية الاستراتيجية في كلّ المجالات، بما في ذلك الديمغرافيا، إذ يتوقّف، من جهة أولى، سيل الهجرة اليهودية من الخارج، واشتدّت في المقابل أمواج الهجرة المُعاكسة، بدرجة لم تحدث من قبل، وهو مُتغيّر يصيب المشروع الصهيوني في موضع القلب.