تونس وملفّ المهاجرين الأفارقة
شهدت تونس خلال هذا العقد تغييراً هيكلياً في ملفّ الهجرة غير النظامية إلى أوروبا، وهو تحوّل مأساوي في بعض جوانبه، خاصّة في ما يتعلق بالأفارقة الوافدين من جنوب الصحراء. ويتميز هذا الملفّ بحقيقتيْن رئيسيتيْن؛ تصاعد الهجرة غير النظامية نحو أوروبا بشكلٍ دائمٍ، خاصّة من قبل مواطني المغرب العربي. وثانياً، استمرار تدفّق الأشخاص من أفريقيا، من جنوب الصحراء الكبرى، الذين يمرّون أو يتوقّفون مُؤقّتاً في الأراضي التونسية، بشكل خلق حالةً من التوجّس لدى السلطات، تجلّت في تصريحات مُتكرّرة من أعلى هرم السلطة في البلاد. ومواطنو البلدان الواقعة في هذه المناطق، من أفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى، الفارّين من الصراعات العرقية والحروب الأهلية والأزمات الإنسانية المتزايدة (في السودان والنيجر ومالي ومنطقة البحيرات الكبرى، وأخيراً، في بوركينا فاسو وتشاد)، يخاطرون بحياتهم مرّتيْن. أولاً، عبور مساحات الصحراء الكبرى، بمناطقها الحرام، وعروقها وأراضيها، مُعرَّضين لخطر السرقة من العصابات، في طريقهم شمالاً أو أثناء عودتهم إلى ديارهم، ثمّ عبور البحر الذي يفصل أوروبا عن أفريقيا، وهو العبور الذي تُزهَق خلاله مئات الأرواح البشرية في كلّ عام.
تُقدّم تونس عديداً من المزايا للأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى، باعتبارها منطقة عبور للهجرة غير النظامية إلى إيطاليا؛ خطّ ساحليّ طويل على بعد مسافة قصيرة من إيطاليا، مقارنة بليبيا، مع شبكة كثيفة من موانئ الصيد الصغيرة، والمحلات التجارية، التي تقع على مسافة ليست بعيدةً من المدن الساحلية الكبيرة؛ بنزرت، وتونس، وسوسة، وصفاقس، وقابس، وتوفير فرص العمل والإقامة لتحضير المعابر السرية إلى إيطاليا. إنّ الكثافة السكّانية والتحضّر، والأنشطة البحرية في الجنوب الشرقي التونسي، تسمح بسهولة الحركة، وتنظيم رحلات الهجرة غير النظامية، عبر القوارب الصغيرة التي تغادر الساحل التونسي وتصل مباشرة إلى صقلّية (150 كلم تفصل الرأس الطيّب التونسي عن صقلّية) والجزر الإيطالية الأخرى في شرق البحر الأبيض المتوسط، في حين أنّ تلك، التي تغادر من موانئ شمال غرب ليبيا، تتبع بشكل عام الخطّ من المياه الإقليمية من شرق تونس للوصول إلى جزيرة لامبيدوزا أو جزيرة لينوزا الإيطاليتيْن.
حشدت أوروبا جهودها كلّها في أعلى المستويات في محاولة وقف الهجرة من الساحل التونسي
حشدت أوروبا جهودها كلّها في أعلى المستويات في محاولة وقف الهجرة من الساحل التونسي، وبلغت ذروتها بتوقيع مُذكّرة تفاهم بين بروكسل وتونس في 16 يوليو/ تمّوز 2023، يتضمّن أحد أقسامها بنداً يتعلّق بمكافحة الهجرة غير النظامية. ورغم تأكيد الرئيس قيس سعيّد أنّ بلاده لن تلعب دور "حرس الحدود"، إلا أنّ أجهزة إنفاذ القانون التونسية كثّفت عملياتها ضدّ شبكات التهريب وورش تصنيع القوارب المُستخدَمة للعبور، منذ نهاية الصيف الماضي، وكانت لهذه الحملات نتائجها الواضحة، فقد انخفضت أعداد المهاجرين بشكل ملحوظ انطلاقاً من التراب التونسي، بعد موجة غير مسبوقة في عام 2023، شهدت تونس انكماشاً في مغادرة المهاجرين وطالبي اللجوء بنسبة 71% منذ بداية هذا العام، رغم تضاعف أعداد الأفارقة في تونس، في ظلّ تدهور ظروفهم المعيشية هناك، خاصّة بعد تصريحات الرئيس قيس سعيّد في شهر فبراير/ شباط 2023، حين وصف تدفّق المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى بأنّه "مشروع إجرامي" يهدف إلى "تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس". ولم تُخفِ رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، وحكومتها التي انتُخِبت بناءً على خطاب مناهض للمهاجرين، ترحيبها بهذا التراجع، مُؤكّدة أنّ جهودها، على الصعيدين الوطني والدولي، أدّت إلى انخفاض كبير في عدد الوافدين إلى شبه الجزيرة. فالتعامل الأوروبي مع ملفّ المهاجرين ظلّ يستند دوماً إلى الثنائية ذاتها القائمة على الانتقائية، أيّ الترحيب بالكفاءات من الضفة الأخرى، وفي الوقت ذاته، التشديد الأمني والقانوني لمنع أفواج طالبي اللجوء الاقتصادي في أوروبا.
بالنسبة إلى تونس، كما هي الحال بالنسبة إلى دول شمال أفريقيا الأخرى، مثل المغرب وليبيا، ربما يكون الأمر أعقد بكثير من مُجرّد التعامل مع المهاجرين الأفارقة، وإنّما أصبح يتعلّق بإعادة توجيه موقعها في القارة الأفريقية، مما سيستفيد من روابطها الوثيقة مع أوروبا (خاصّة مع إيطاليا) لتصبح نقطة عبور، والجاذبية التي تشكّلها لسكان جنوب الصحراء الكبرى الناطقين بالفرنسية، سواء كانوا مقيمين بشكل قانوني، مثل طلبة الجامعات ورجال الأعمال، أو القادمين بشكل غير نظامي بحثاً عن فرصة للهجرة إلى أوروبا، فإنّ وجود سكان جنوب الصحراء الكبرى في تونس هو موضوع جدل محلّي وينبغي التعامل معه بحذر، وبما يناسب المصالح التونسية في علاقتها بامتدادها القارّي، إذ يمكن لهذا الملفّ لا أن يُؤثّر على مكانة تونس في الفضاء الأفريقي فحسب، بل أن يغيّر أيضاً مكانة أفريقيا في المجتمع التونسي. وبعد أوروبا ومعها، فإنّ تونس والمغرب العربي، اليوم، هو الذي يجب أن يطرح على نفسه السؤال الأخلاقي: من الذي نريد أن نُرحّب به؟