تفكيك مقولة "لعن الله السياسة"

18 مارس 2022

(كريستيان سركيس)

+ الخط -

لا تزال مقولة "لعن الله السياسة" تشغل عقول أبناء العالمين، العربي والإسلامي، وعلى الرغم من مرور ما يزيد على قرن على صكّها، إلا أنها بين حين وآخر تجد من يستفتي عنها ويسأل عن حرمة هذا اللعن، وهي من المقولات التي يحرص المستبدّون وأعوانهم على أن يجفّفوا بها بيئة السياسة العربية والإسلامية، ويبعدوا الناس عن الاهتمام بالشأن العام من خلال الإيهام بأنها ملعونة، أو أنه لا يأتي من ورائها خير. وتعود المقولة إلى الإمام محمد عبده الذي قال بها في واحدة من مقالاته بعنوان "السياسة"، عندما قال "قاتل الله السياسة، إنها ما دخلت في شيء إلا أفسدته.. فإن شئت أن تقول: إن السياسة تضطهد الفكر .. أو العلم أو الدين .. فأنا معك من الشاهدين، أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة..، ومن ساس يسوس وسائس ومسوس".

المقولة بهذا التعميم إنما تشير الى كل الممارسات السلبية في عالم السياسة، وهي السياسة الملعونة في هذا الإطار، ولا تلقي بالا لمعنى السياسة الصالحة والمُصلِحة؛ وإنْ توازن الرؤية بين سياسة الإصلاح والتعرف على وجه الاختلال والانحراف بها فسادا وإفسادا. أما ذلك الترويج للعن السياسة وشيوع أوصافها ضمن الممارسات الدنيئة وانتمائها إلى دائرة المدنّس، فإنها من آليات المستبد لإبعاد الناس من دائرة السياسة، على الرغم من تعلقها بعيشهم ومعاشهم؛ وتصنع من حالات النفور والتنفير من الانخراط والمشاركة؛ فيتحقّق للمستبدّ انفراده بالسياسة تشكيلا وتأثيرا، كما أنه، من جانب آخر، ما العائد من وراء لعن السياسة، إلا ربطها بصنع صورة ذهنية لها بأنه يجب الابتعاد عنها. ومن هنا، من الضروري التأكيد على أن مسألة اللعن أو السب هنا لا تفيد، بل هي تراكم كل معاني السلبية وعدم الاهتمام واللامبالاة، وهذه قابليات كبرى للاستبداد والمستبدّين.

إعادة صياغة علم السياسة تتطلّب إعادة تحديد المعلومات وترتيبها، والنظر في ما يترتب عليها من استنتاجات، وتقويمها

ليست السياسة شخصا أو كيانا ماديا أو معنويا يمكن لعنها، وهي تنطبق عليها القاعدة الكلية؛ أن حسنها حسن وقبيحها قبيح. ولذلك هناك رؤى كثيرة توضح أن في مسألة السياسة جانبين، أولهما أنها إذا كانت تُعنى بسياسة الناس، وتدبير أمور معاشهم، فهذا من فروض الكفايات، والمشتغل به إذا أخلص النية وقصد بعمله إقامة القيم وقيام الناس بالقسط ونفع الخلق فهو على خير عظيم وثغرة مهمة. وإذا كانت قائمة على الكذب والنفاق وسوء الأخلاق والاستبداد فهي تورد صاحبها المهالك. وكما أكد عالم أصول الفقه، أحمد الريسوني، "السياسة الحقّة هي كل تدبير وكل عمل من شأنه أن يؤمن للناس دنياهم وآخرتهم، ويكونون معه وبه أكثر صلاحا وأقل فسادا، وأكثر عدلا وأقل ظلما، وأكثر سعادة وأقل شقاوة، كما أن العلماء الذين ذهبوا إلى لعن السياسة والسياسيين، فلا شك أنهم إنما قصدوا الساسة الشيطانيين." ومن ثم نأتي إلى نصف المقولة الآخر "السياسة"؛ ومن المهم التأكيد على أن هناك اختلافا بيّنا في الرؤية الإسلامية عنه في الرؤية الغربية، كيفية بناء علم سياسة ملتزم بالقيم الكلية والمقاصد العامة، والذي ينطلق من نقطة أساسية، تتمثل في إعادة تعريف مفهوم السياسة ذاته وفق الرؤية الإسلامية، وتميّزه في هذا المقام كنسق قياسي، ويؤثر هذا الأمر ضرورة على إعادة تعريف علم السياسة. ذلك أن مفهوم هذا العلم الذي شاع منذ نشأة علم السياسة المعاصر ودخوله في العالم العربي مارس دورًا كبيرًا وخطيرًا في تحديد مسار العلم وموضوعاته وطريقته في البحث، وهو إن كان يتفق في ذلك مع مسيرة الدراسات الإنسانية في مجملها، والتي خضعت، في تكوينها، للتأثيرات الوضعية والمادية وفصل القيم السياسية عن القيم الأخلاقية العامة وتغلغلها في النطاق التعليمي، إلا أن علم السياسة بالذات، لخطورة موضوعاته والقضايا التي يعالجها، كان أهم عامل لتثبيت هذا التغلغل وقوة تأثيره، ما جعله ركامًا فوق بعضه بما يحجب الرؤية، كما يعرقل عملية التغيير والسير بها على طريق الفاعلية.

 ممارسة السياسة بأنها مفهوم يستبطن قيم الصراع والتكيف والحلول الوسط وتحكيم الواقع باعتبارها فن الممكن، وكذلك أن تكون مسكونة بمفهوم القوة والمصلحة، تعبّر عن رؤيةٍ اقتفت أثر مفهوم السياسة الوضعي في الفكر السياسي الغربي، وهي إن وجدت مجالها وطريقها إلى التعميم والانتشار والاستقرار، إلا أن هذا كله لا يعني صحتها أو صلاحيتها أو فعاليتها، فالسياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه، وفعل السائس الذي هو نظير المعالجة من الطبيب ينقسم بكليته إلى قسمين: التعهد والاستصلاح. الأول حفظ المستقيم وأمور الرعية على استقامة وانتظام من الهدوء والسكون، حتى لا يزول عن الصورة الفاضلة. والاستصلاح ردّ ما عارضه منها الفساد والاختلال إلى الصلاح والالتئام. وقال ابن عقيل في الفنون إنه جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الجزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال الشافعي "لا سياسة إلا ما وافق الشرع"، فقال ابن عقيل إن السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة، وهذا موضع مزلّة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعتركٌ صعب، فرّط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرّأوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً أنه حق مطابق للواقع، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع.

مسألة اللعن أو السب لا تفيد، بل هي تراكم كل معاني السلبية وعدم الاهتمام واللامبالاة، وهذه قابليات كبرى للاستبداد والمستبدّين

ما نحن فيه وبصدده، وما يترتب على كل ما سبق يتطلب منا، كما تقدّم أعلاه، "إعادة تعريف السياسي" مرة أخرى، وجزء لا يتجزأ من تعريف "السياسي" البحث في القواعد والوسائل والترتيبات والعلاقات والمواقف التي تؤصل معنى "القيام على الأمر بما يصلحه"، في إطار ناظم بين الصلاح والإصلاح والمصلحة والصلاحية يحرّك كل هذه المعاني المتمايزة: من زيادة في المبنى التي جلبت إضافة في المعنى، واتحدت، كلها، في جذر واحد لا تغادر معانيه الأساسية ولا تحيد عنها. والأمر لا يقف عند تحديد موضوع العلم، بل يتخطّى ذلك إلى كل العمليات المنهاجية: من ضرورة إعادة النظر في تصنيفات العلوم وموضع علم السياسة منها، سواء طرحت هذه التصنيفات في التراث القديم نتيجة للتأثر بفلسفة اليونان القديمة، أو تلك التصنيفات التي تطرح نتيجة للتأثر بعلم السياسة الغربي المعاصر؛ ذلك أن إعادة صياغة علم السياسة تتطلّب إعادة تحديد المعلومات وترتيبها، والنظر فيما يترتب عليها من استنتاجات، وتقويمها، وتصوّر أهداف العلم ومقاصده. وغاية الأمر في هذا المقام أن نعيد الاعتبار لمفهوم السياسة بتضمّنه جوهر استراتيجية الإصلاح ومدافعة كل فساد واستبداد؛ والخروج من دائرةٍ مفرغةٍ في لعن السياسة.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".