تشرين

تشرين

03 أكتوبر 2023

(أوغيت كالان)

+ الخط -

لطالما كان شهر تشرين، بعُرفنا، نحن اللبنانيين، فِعلًا قابلًا للتصريف. فلا هو أكتوبر ولا هو نوفمبر، بل هو "التشارين"، وإن كانا شهرين لا أكثر، لنا مع أولهما موعدٌ خاصٌّ تعتريه ألفة، وقرصة قلب، وشيءٌ من التفكّر والحنين. لا أدري إذا كان الأمر متّبعا في بلدانٍ أخرى، فنحن نقول "خلص، تَـشْرَنَ الطقسُ"، أي دخل في الخريف، وفي قولنا تتوارى غصّةٌ صغيرة سببها يقيننا من أن الصيف قد ولّى بعطله وكسله وفرحه المزعوم، يقابله ارتياحٌ ما لبرودةٍ مقبلةٍ أخيرا، بعد قيظ وتعرّق وعجقة زوّار وعائدين، ترافقه خشيةٌ من فواتير ستتكدّس، وأقساط يجب أن تُدفع، ومؤن يجب أن تُجمع تهيئةً لشتاءٍ محتوم. 
أجل، كان لتِشرين دائما مذاقٌ خاص، شيءٌ ما بين الحلاوة السكرية التي للعنب المعقود والتين العسلي، والحموضة اللاذعة للشتوة الأولى والضباب الصاعد بجلالٍ من عمق الوديان، نكهة ما بين الغبطة الهادئة والكآبة الخفيفة الرائقة، حين تتبدّل الألوان، ويبدأ البرتقالي والأصفر يسودان في البراري والتلال والجبال، وتعودنا الغيوم القطنية البيضاء، تتعلّق بها أنظارنا وتشكّل لنا غفواتِنا، بعد غيابٍ طويل. تصير النوافذ المغلقة متّكأَنا ونظّاراتنِا التي نتأمّل عبرها ما يدور. إنه الخريف. في القرى البعيدة المرتفعة التي لا تني تتعالى نحو السماء، رائحة المواقد الأولى ودخانها المتصاعد، شذى التّفاح الذي يُقطف ويُجمع ويُحمّل على ظهور الحمير والبغال، أو يتكدّس حزينا في صناديق شاحنات تبصق مازوتها على الطرقات. الموسم جيّد، يحشرج المزارعون، لكنّ التجار هجرونا أو هم يشترون زرعنا بسعر التراب، أو أنهم يغصّون: الموسم سيئ هذا العام، ضربنا البرَدُ وهزّتنا العواصف المبكرة وقضت الثمارُ على أمها قبل أن يحين موعد القطاف. 
وفي داخل البيوت النائية، أو في ساحاتها وعلى سطوحها، تنشط النساء، فتشتعل أعواد الحطب تحت القدور التي تغلي بمحتوياتها من عصير الطماطم والصلصات على أنواعها، وتمتلئ مراطبين المخلّلات، بالخيار ورفاقه، قبل أن تستلقي مقلوبة فوق فوط تتجاور على بلاط المجلى، تسامرها مربّياتُ التين المعقود بالسمسم والجوز، المشمش والخوخ والتفاح وكل ما جادت به الأرض وفاض عن الحاجة، يُحفظ كما تُحفظ الخضار المجفّفة التي تُعلَّق على الحبال في الهواء، أو تُستودَع الثلاجة في أكياسٍ مركونةٍ بعناية لتشغل الحيز الأصغر مفسحةً لسواها. 
تشرين هو شهر الوداعات أيضا، تتوالى حارقةً حين يرتحل الأولاد إلى بلدانهم البعيدة، فيُنظر إلى ما تكدّس على أنه هدرٌ وهباء، إذ من سيأكل هذا كله وقد فرغت الدار وحلّ الفقدُ والاشتياق وتمادي الانتظار على قلوب يشويها البُعد وحرقةُ وقتٍ يراوح ولا يمضي، إلا بعد أن يحلّ اللقاء.
أما في المدن الجريحة، في المدن المحروقة، فتشرين اليوم يزيد الفقر فقرا، لأنه محرقة المعوز والمقهور وفاقد الحيلة. إنه الريح التي تهبّ لتعرّي الحاجة والبؤس فتُطلعهما إلى الشمس، وقحيْن  فاجريْن لا لبس فيهما. حقائب الأطفال القديمة، تُؤخذ إلى الإسكافي لتُعالَج ثقوبها وندوبها، والملابس تُرتق ويعاد تدويرها من طفل إلى آخر، الفطور يصبح كسرة خبز مبلولة بالماء، فيما ينام الأهل مفتوحي الأعين، مرعوبين من قسوة أيام مقبلة. الطرقات سوف تغصّ قريبا بمياه المجارير، تصبّ من كل المواضع مثل نهر مُرتجَل يسقي عجزنا، وتنمو على ضفافه أشجار لعنتنا التي لا تني تذكّرنا بأننا باقون أبدا في أتون الإهمال والفساد والقرف الذي أصبحت عليه حياتنا. سوف تكثر أخبار التعدّي والقتل وقلة الحيلة والفقر، ومن العدم، سوف تبرُز رماديةً أشباحُ الذيي ينكبّون على مستوعبات النفايات يبحثون عن قوتهم اليومي، بعدما فرغت الشوارع والطرقات من جحافل المغتربين والسياح والوافدين إلى "جنة الله على الأرض". أجل، لقد فرغت "جنّتنا" إلا من الشياطين يقبضون على أعناق الناس، يمصّون دماءهم، مجتزّين أي أمل بالخلاص. 
تُتَشْرِنُ المدينة المسلوبة، كطيرٍ سقط بعنفٍ على أرضٍ صلبة، فاجتمع عليه جزّارون ينتفون ريشه، يبترون أطرافه ويعرضونه بتعليقه داميًا في الهواء..

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"