الوجوه التي ترافقنا إلى الحقول

الوجوه التي ترافقنا إلى الحقول

10 فبراير 2022

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

للكاتب المغربي الراحل محمد شكري، مقولة: ".. هناك وجوه تغضبني بلا سبب وأخرى تفرحني". .. كان وجه فاتن حمامة قريبا جدا مني، وبلا سببٍ شعرت بالفرح، وأنني ضيف جمالها، وأن الوجه وردٌ يُرمى علينا من هناك بلا سبب. لماذا دائما يكون وجه فاتن حمامة مريحا وكأنه يرفع عنا ديونا ثقيلةً تعثرنا فيها وهربنا، هل لمسحة الجمال فعل السحر في الناس، ووجه آخر تحسّه وكأنه من كمائن وزارة الداخلية في مدخل مدينة بني سويف، ووجه آخر يأخذك إلى حديقة ورد أو إلى غيط للفول الأخضر المحاط بالحلبة الخضراء وصوت ما قبل المغارب يضحك على الجسر والشمس تشيل وتحطّ وفرح النعمة يتراقص في الحناجر مع الضحك، ووجه يعيدك إلى الواجب المدرسي، وحصة ذلك المدرّس الخشن الذي "يقيّف بدلتيه أول كل سنة"، وفي السنة التي ذهب إلى ليبيا مات ابنه البكري هناك، فعاد أكثر عبوسا وخشونة.

وجه آخر وكأنه يفتح لك سريرتك، ويرصد أسرارك، وكأنه يعرف كل أشواقك التي مشت معك كل هذه السنوات، من دون أن تخونك أو تكفّ عنها، وكأنه قد جاءك كي يعينك على حسراتك، ثم يغيب عنك فجأة وبلا مقدّمات أو سبب. ووجه يأخذك إلى الريف. وآخر يرمي بك في صحراء بلا جمل ولا غناء ولا بئر. ووجه في طفلة وكأنها تنادي عليك باسمك الذي لا يعرفه سواك، ثم تضيع منك الطفلة إلى الأبد في سوق أكثره من اللصوص، طفلة لها حلم عيون ناضجة، وأب هناك غليظ القلب ينادي عليها "بقلّة أدب"، تجري ناحية الأب ويظل حزنك عليها هناك في تلك السوق الذي كان يشبه الحلم تماما وهي أيضا.

عيون ناضجة في ملامح طفلة وأنت كنت الغريق، وحواجز هناك وأكمنة وبوابات مفتوحة وأخرى مغلقة بقفلين. المقهى يعلمك ألا ستائر تنفع أبدا في صدّ الوجوه عما تداريه خلف ضلوعك وأنت تشرب الشاي، العين سهام مقصودةٌ والوجه بوابة الدخول للغزو إلى الآخر.

مساكين نحن، نحاول أن نقرأ ستائر الوجوه، ها هي عثرة في طريق القراءة في المقهى لذلك الوجه، ونحن أيضا ستائر عثرة أمام عيون الآخر في المقهى، فمن أدرانا؟ هل لهذا النخيل البعيد الذي يطلّ علينا عيون ترانا وتحدّثنا عن الحال، حالنا على الأقل، وهل هؤلاء المرضى المساكين بعللهم على حافّة الموت في مستشفيات الكبد في قوة الرسائل التي تطلقها كل آن عيونهم وأرواحهم علينا، على الرغم من ضعفهم، شهور وأسابيع أخيرة لهم لم تمنعهم من إرسال العتاب إلينا حتى وإن كنا في المقهى، ولا صلة لنا بهم أبدا.

الكلاب ناعسة والعصافير هي الأخرى، رغم الشتاء، تحاول جاهدة أن تتصيّد من الهواء قشّات هينات لاكتمال العش. الكون حولنا، رغم الخراب، يسعى إلى اكتمال معانيه، حتى على يد عصفورةٍ صغيرة تبحث عن دفءٍ في هذا العالم. الكلاب ناعسة على الأعتاب، والجدّات وكأنهن مسحن كل مكر سنواتهن ورسمن حدود الطيبة للأحفاد. للقطار هو الآخر وجه وسحنة ورسم، وأحيانا يكون غاضبا وعنيفا بلا سبب على الناس، وكأنه هو الآخر ملّ فكرة الاستقامة والسجن فوق قضيبين من حديد، وأحيانا يكون هادئا وتغني له الستّ والموسيقار، هذا إن كان هناك "للمحبوب"، أي بلد. هل ملّ القطار هذه القرى الساكتة بعد كل هذه السنوات والغناء، فماذا يريد وجهي أنا مني بعد كل هذه السنوات؟ أنا هنا أحاول جاهدا أن أرى ما أنا فاعله، بعدما انتهت اللعبة تماما وأصبحت جليس مقهى.

للكتب أيضا وجوه ولها حظوظ، الكتب لها قلوب، وأحيانا تدقّ رقيقا بإصبعها على قلب طالبها، وأحيانا يأتي القبول. نقرأ ونقول: كيف كتب فلان هذا ما كتبه رغم أنه كان مريضا ويعاني من حاجة، وكانت لديه ابنة أصيبت بالشلل؟ نظل نرى، كيف اختار لها الأب الاسم، حتى كبرت وزرع لها في الحديقة وردة، وسمّاها على اسم امه. عاتبته أمه، المؤلف كبر ومات وترك الكتب كما هي، والبنت صار لها كوافير وتضحك مع البنات وتدير الكوافير بهمّة وتحرص دائما على شراء الورد، وتتألم كثيرا لأنها لم تعد قادرةً على قراءة الجريدة كما كان يفعل المرحوم والدها، وأن الدنيا لم تعد كما كانت، ولا حتى القهوة ولا حتى الشاي، ثم تعود إلى المصحف.

الناس التي تمشي في الشارع حكاياتٌ موزّعة في العالم من دون أن ترى بعضها ولا حتى ذلك الجالس في المقهى يطلّ للنخل ويتأمل يمامتين هناك، تتعاركان على شيء ما.