الكوفيّة الفلسطينيّة شخصيّة 2023

الكوفيّة الفلسطينيّة شخصيّة 2023

21 ديسمبر 2023

متظاهر في لوس أنجلوس يرفع الكوفية الفلسطينية تضامنا مع غزّة (14/10/2023/Getty)

+ الخط -

الكوفيّة الفلسطينية في العام 2023 خارج الجدران العازلة، بلا وجوه محدّدة، وبلا زمن. تنتصر على منتهكي الأرض وحقوق الإنسان، تكتنه جوهر القضية ودورها ومعناها في علاقتها بالحياة السياسية والإنسانية، وتظهر حجم التفاعل المتبادل مع العالم، وتصيّر شارة حياة فلسطينية واقعية، وكإحدى مفرداتها من منظور الفكرة، القادرة على قلب العالم إلى صورتها. فتغري بوجه الحرية والعدالة، وبأن تكسر سيف الاحتلال الإسرائيلي بتلك الحساسية الشعبية العالية التي عرفت كيف تحرّك العالم. كان يمكن أن تمنح لقب شخصيّة العام 2023 بعد فولوديمير زيلينسكي، لكن مجلة تايم منحت اللقب لنجمة البوب الاميركية تايلور سويفت لـ "تجربتها المميّزة". 
كان من الصعب، ربما للأسباب السياسية العالمية الداعمة لإسرائيل، أن تختار المجلة، أو مثلها صحيفة فايننشال تايمز،  شخصية غير مرئية، مثل شخصية مخطّط عمليّة "طوفان الأقصى"، يحيى السنّوار، أو شخصية "الملثّم" أبي عبيدة، المشرف على دائرة الإعلام العسكري في كتائب القسّام، على غرار صورة "الملثّم" في احتجاجات شبكات الغضب والأمل والحركات الاجتماعية في عامي 2010-2011، وفيما أخذته العملية في 7 أكتوبر وتأثيرها في النظام السياسي والاقتصادي العالمي العام.
كوفيّة مثل الإضاءة، قيمة ثورية ليست مستقلة عن أشكال النضال، ولها وظيفة تتقدم الملابس الفلسطينية كعنصر تاريخي وجمالي/ إيحائية لفلسطين الكرامة الوطنية، وكرؤية مستقلة لكتلة بشرية حيّة بالطراز والألوان والقماش. علاقة تفاعلية تكثف خيوطها انتهاكات الاحتلال ويأسه مقابل مادة حياة فلسطينية تضجّ بالإيماءات والمعاني والحجم الانساني. هي ليست مجرّد ألوان وملابس وأكسسوارات جميلة وحسب، بل تبرز الوجه الفلسطيني بشروطه المعينة، والمواصفات الاجتماعية بمعانيها الرمزية.

قطعة ملابس تعبر عن خلفيات ودلالات رمزية سياسية واجتماعية وعسكرية ودينية ونفسية، نجحت في مخاطبة شباب العالم

قطعة ملابس جاذبة للعالم، تحشد خلفها التحوّلات في فلسطين التاريخية بمعانيها الرمزية  المنتقلة من زمن "أبو عمّار" إلى الجيل الجديد الذي يمثله السنوار ورفاقه تحلّ محلّ  الكلام كعامل معنوي من مكوّنات النهوض الفلسطيني، وتعبر عن خلفيات ودلالات رمزية سياسية واجتماعية وعسكرية ودينية ونفسية، نجحت في مخاطبة شباب العالم، فأعلن تضامنه ومواقفه ببساطة وذكاء بطريقة احتجاجية/ تضامنية واعية مع الزمن الفلسطيني الواقعي في رسالةٍ يحاول العالم من جديد أن يقرأها.
لطالما مثلت غزّة صراعا قويا خارج المسرح المباشر، صراعا سياسيا حين يحتفل أنصار إسرائيل بديمقراطيتها، في حين أنصار القضية الفلسطينية  يؤكّدون أنها معركة من أجل التحرير الوطني، فأتت ترجمته، بكل لغات العالم، ميدانا لصراعات القلب والروح عند الفلسطينيين، في جسمهم وحواسّهم، وميثاقهم وجذرهم. في المقابل، الغطرسة والغرائز الوحشية الاستيطانية الإسرائيلية، والإسرائيليون في ضياعهم عميان في قصر النظر، يتركهم العالم معلقين، يساورهم الخوف والقلق واليأس والرتابة في تكرار الأخطاء. 
إطلالة حداثية فضحت التطبيق البيروقراطي السخيف لحقوق الإنسان، وأظهرت السبل الثورية الجديدة التي اعتمدتها "حماس" في مواجهة آلة الاحتلال الإسرائيلي بتلك الحساسية العالية التي أفسدت السلطة العسكرية الإسرائيلية بطريقة مطلقة.

الكوفيّة حالة أنطولوجية وأيديولوجية لا تنفصل عن الذات الفلسطينية في وجودها، وبوصفها معبّرة عن طبيعة الشعب

إنها قضية فلسطينية مختلفة نهاية العام 2023. تسارعت الأحداث، حين كان الآخرون يتجادلون بمفاوضات السلام بجدّية مع الذين احتلوا المكان في مبادرات وأيديولوجيات وسياسات متحايلة على التاريخ والمصير الذي يريد الفلسطينيون صوغه بلحظاتٍ تجسّد ضمير الواقع الهادر والصامد. كأنها كوفيّه تشبه الزمن الآتي إلينا. لم تأت نوعا من "الموضة"، أو صيحات موسمية، بل خرجت مضرّجة بالدم مقاومة للضعف والضغوط المعنوية والجسدية والتعذيب والإهانة. علامة ثقافية/ فنية حققت انتشارا واسعا بين متظاهرين في العالم، وشكلت استثناء على كل قوانين الحظر على الملابس. تعرض العديد من البلدان الحظر على الملابس لأسباب دينية أو ثقافية أو تاريخية. تحظر المانيا الرموز النازية في الأماكن العامة، وتحظر بعض البلدان الإسلامية الخروج من دون غطاء الرأس أو الوجه، تفرض الدول المحافظة ثقافيا، مثل أوغندا، على النساء عدم ارتداء التنانير القصيرة، فيما تمنع كرواتيا وجزر المالديف زوّارها من ارتداء ملابس معينة بعيدا عن الشواطئ، وتحظُر اليونان ارتداء الكعب العالي في المواقع الأثرية. وفي العام 2010، أخذت فرنسا التي تشعر بالقلق من ارتفاع هجرة المسلمين وحماية حقوقها العلمانيّة فكرة قانون يحظر تغطية الوجه في الأماكن العامة.      
وتختلف ألوان الاحتجاجات في العالم، وفقا للأسباب والمطالب المختلفة. اعتمدت الثورة الأوكرانية اللون البرتقالي رمزا للحرية والديمقراطية، فيما اعتمدت الحركة الخضراء في إيران اللون الأخضر رمزا للحرية والتعبير.
الكوفيّة حالة أنطولوجية وأيديولوجية لا تنفصل عن الذات الفلسطينية في وجودها، وبوصفها معبّرة عن طبيعة الشعب. تحوّلت الى جيش من المعنويات، وفي تشكيل تفاعلي بين الواقعي والتخييلي. هذا الواقع الذي لم يخش منه سكّان غزّة تحت وابل القنابل المتواصل، بخلاف الجيوش التي  تدرُس التخطيط العسكري بطريقة ميكانيكية. قناع "أبو عبيدة" يغزو العالم، مثل قناع "دالي" الذي استخدم في رفض أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية معينة، كما قناع "فانديتا" في مصر رمزا ثوريا ضد الأوضاع القائمة على القمع، والقناع الذي  أخرج الأميركيين ردّا على مقتل الزنجي جورج فلويد في ميتابوليس الأميركية.

تنخرط الملابس أدواتٍ في مقاربة العالم الأمور هكذا بأن فلسطين ليست الموئل للاستيطان، وأن إسرائيل هي موضوع التأهيل كمفهوم رجعي

قدّمت التكنولوجيا استخدام الكوفية رمزا للبأس والثورة وانتصار التراث الشعبي الذي يعمّق التواصل مع العالم وإدراك أصالة شعب كادت تفقد القضية خصوصيتها، وهي تنتقل اليوم من حالة إلى أخرى وتتكلم، وتجبر العالم على أن يجيب على تساؤلات القضية المنسوجة من أحلام الناس وآمالهم بدولة مستقلة، وتأملاتهم عنصرا من عناصر استقرار عالمٍ، وديمقراطيته موضع المساءلة والمعالجة والـتأمل في الشخصية الفلسطينية الجديدة على الشاشات والمواقع الإلكترونية والشوارع والمدن والجامعات والملاعب الرياضية. 
الملابس وراء احتجاجات العالم، سواء بالأقنعة أو الملابس أو القماش أو الأكسسوارات، العنصر الذي يبرز مرئية  الكتلة البشرية الحيّة، وتنعقد على جسدها أغنيات وأناشيد كأغنية نيلسون مانديلا التي حرّرته من السجن، وأغنية "نحن أميركيون أكثر" للفرقة المكسيكية تنديدا بالتمييز العنصري، الى آخر قصيدة "إرادة الحياة" لأبي القاسم الشابي.
كأنها عودة إلى سفر التكوين، بوصلة فلسطينية حقوقية، وشكلا من أشكال المعارضة للبنى والفاعلين السياسيين. الخطيئة هي إسرائيل عاجزة أمام هذا التكوين الفلسطيني الجديد. لذلك ليس رعب القصف وحده هو الذي يجعل الحوار بشأن غزّة صعبا للغاية، ولا يصبح الأمر أسهل عند التفكير، في ما سيأتي بعد ذلك في وجه نظام الفصل العنصري والهيمنة العرقية. تنخرط الملابس أدواتٍ في مقاربة العالم الأمور هكذا بأن فلسطين ليست الموئل للاستيطان، وأن إسرائيل هي موضوع التأهيل كمفهوم رجعي. كأن العالم لم ينس شيئا، ولم يتعلم شيئا في المقابل. من كوفيّة مادة للدراسة السوسيولوجية بكل تلك السلطة الرمزية التي تمثلها في وجه تناقضات المجتمع الدولي وتفاعلاته وصراعاته.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.