العشيقة البغيضة

العشيقة البغيضة

05 نوفمبر 2023
+ الخط -

ألا يكون البغض البالغ سببًا للحبّ الفادح؟ هو كذلك في علاقة الغرب بإسرائيل.. بدأ بغضًا وانتهى عشقًا. وهو ما يفسّر هرعها لإنقاذ "العشيقة البغيضة" التي وقعت في مأزق وجوديّ يهدّد حياتها.

باختصار، الغرب الذي يخشى تفتيت إسرائيل إلى خميرتها الأولى، المؤلفة من قطعان المهاجرين اليهود من دوله، يشعر أنه سيكون الخاسر الأكبر من هذا التفتيت، فهو صاحب شرف "اختراعها" قبل 75 عامًا.

آنذاك، كان "البغض" المحرّك الأول لدفع اليهود نحو الهجرة إلى فلسطين، فقد كان الغرب يعيش معضلة الوجود اليهودي على أرضه، وهو إرثٌ تناقلته أجياله عبر القرون، إذ كان اليهودي محتقرًا، ومنتبذًا، وغير مرحّب به في المجتمعات الشقراء، وغالبًا ما يعيش منعزلًا مع طائفته في حارات وأحياء خاصة بهم، ويتعرّضون لصنوفٍ من التمييز العنصري، إما لديانتهم التي تذكّر المسيحيين بمعاناة نبيّهم مع أتباع هذه الديانة، أو لأن اليهود أنفسهم كانوا يُؤثرون العزلة، وتجنّب الذوبان في المجتمعات المحيطة، انطلاقًا من نظرة الاستعلاء التي تصحبهم أينما حلّوا، باعتبارهم "شعب الله المختار"، وليقينهم أنهم جنسٌ متفوّق على الآخرين بصفاته، وذكائه.

من رحم هذه العلاقات المتوتّرة، نشأت المعضلة اليهودية في الغرب، والتي وجدت أبلغ تعبير لها زمن هتلر، الذي أخذ على عاتقه حلّ المعضلة بأقصر الطرق عبر المحارق وغرف الغاز. ولا نجانب الواقع إن قلنا إن الحلّ النازي، المتوحش، كان يمكن أن يكون في أيّ بلد أوروبيّ آخر، ولو بأشكالٍ مغايرة، فالخلاص من اليهود كان قاسمًا مشتركًا يوحّد الغرب، حتى جاء الحلّ إنكليزيًّا هذه المرّة، عبر وعد بلفور الذي شارك اليهود أنفسهم في إعداده واستصداره؛ لأنهم كانوا يبحثون عن حلّ لعقدة "التفوّق" التي يحملونها، والتي تتسبّب في صراعاتهم المزمنة مع الآخرين. كانوا يبحثون عن رقعة جغرافية تجمعهم وحدهم، بديانتهم، وأفكارهم، وفلسفاتهم. يريدون وطنًا خالصًا لهم، فكانت فلسطين المأرب والهدف، لا سيما أنها ترزح تحت الانتداب البريطاني، أما تفاصيل ما تلا ذلك فمعلومة.

كان حلًّا وجد هوىً لدى "المبغِض" و"المبغوض"، وحين لاحت بشائره، انقلب البغض إلى حبّ مجنون، على قاعدة "أحبّك ما دمت بعيدًا"، فضلًا عن أن هذا الحلّ يريحهم من "عقدة الضمير" التي نتجت عن "الهولوكست".

في المحصلة، تأسس "الوطن" المشتهى، الذي جاء حصيلة تلك الملابسات برمّتها، على حساب شعبٍ أصيلٍ يقطنه منذ ما قبل "كنعان".. كان حلًّا يمهّد لمعضلة جديدة لم يحسب لها الطرفان حسابًا، فقد كان همّهما الجامع الخلاص من هذه "العقدة" التي يتقاسمانها، وأعني بها عقدة "البغض" المتبادل بين الطرفين. وما إن استقرّ المهاجرون جزئيًّا، حتى بدأت تلوح بوادر العقدة الجديدة، ممثلة بالشعب الذي يأبى الاحتلال، ويرفض التخلّي عن وطنه.

آنذاك، استحال البغض إلى "حبّ" بين العدوّين اللدودين، وغدا الهدف المشترك بينهما الحفاظ على هذا الكيان الدخيل مهما كلّف الأمر. وعلى مدار الصراع الطويل مع أصحاب الأرض ومحيطهم، كان "المبغض" أشدّ شراسة في الدفاع عن "المبغوض"، ليس حبًّا فيه، بل لأنه ليس على استعداد لإعادة كرة اللهب إلى يده بعد كل ما فعله للتخلّص منها.

وفي الخلاصة، يدافع الغرب عن "حبيبته" اليوم، ليس من باب الشهامة، والنخوة، وأخلاق الفرسان، بل لكونه لا يريد أن يعايش عقدة اليهود على أرضه كرّة أخرى.

أما الولايات المتحدة، التي لم يكن لها حظ في "شرف" اختراع إسرائيل، فقد لازمتها هذه "العقدة" طويلًا، حتى وهي تحلّ محلّ بريطانيا في رعاية "الحبيبة"، وربما كان أبلغ تعبير ما يرد على لسان الرئيس المتحسّر دومًا جو بايدن، الذي كرّر مرارًا: "لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها". وها هي اليوم تسعى للحصول على "شرف" متأخّر في الدفاع عن "وجودها"، عبر إرسال حاملاتها وبوارجها، وخبرائها، بل وإدارة حرب "استعادة الذات" التي غرقت في طوفان الأقصى..

أما الفلسطيني الذي كان ضحية عشق وبغض لا ناقة له فيهما ولا جمل، فلسان حاله اليوم يقول للغرب: "إذا كنتم تحبّون إسرائيل إلى هذا الحدّ، وتعترفون بأنها تشبهكم، فخذوها عندكم لأنها لا تشبهنا".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.