الطريقة الصحيحة في القراءة

12 ديسمبر 2022

(بليندا بليغناوت)

+ الخط -

لا وصفة سحرية ثابتة للقراءة الصحيحة، إنما وُضع العنوان أعلاه من باب التفكّه. لكن توجد بالتالي طرق خاطئة للقراءة، من أمثلتها أن يقرأ المرء عدة كتب في وقت واحد وفي نوع واحد، مثلاً خمس روايات في وقت متقارب، ليرى نفسه عاجزاً عن إكمال أي منها أو مضطراً إلى نسيان أحداث وتفاصيل بعضها. هناك طريقة تحبّب في القراءة جربتها عملياً ونجحت. ذهبت مرّة لزيارة صديق كان طريح الفراش في مستشفى للأمراض الباطنية. أخذت معي هدية له أربعة كتب، وطلبت منه أن ينتهي منها (وليس بالضرورة  أن ينهيها)، لأنّي في الزيارة المقبلة سآتي لآخذها، وبين يدي أربعة كتب أخرى. تعمّدت أن تكون الكتب متنوعة، بين رواية السوري زياد عبد الله "بر دبي"، ومجموعة قصصية عالمية اختارها وترجمها السوداني بدر الدين حامد الهاشمي، و"الحيوان الحكاء... كيف تجعل منا الحكايات بشراً" للأميركي جوثان غوتشل (ترجمة بثينة الإبراهيم)، وكتاب حمل عنوان "الأرض خزنة ذهب" تسرد فيه جواهر بنت محمد بن سالم الزعابية سيرة والدها البحّار العتيد الذي قضى ردحاً من حياته في البحر بين البحار العُمانية والبصرة والهند وزنجبار في أفريقيا. في هذه الحالة، يمكن للقارئ أن يتنقل بسهولة بين الكتب من دون أن يصيبه الملل أو يعتريه النسيان، وذلك لأنّ كلّ كتابٍ بين يديه يجول في عالم مختلف عن الآخر، فالسيرة ليست هي الرواية المتخيلة، والقصة ليست هي الحيوان الحكاء، وإنْ أوحى هذا الكتاب الممتع بذلك.
رجعت إلى زيارة الصديق في المستشفى بعد أربعة أيام، ومعي كتب أخرى أربعة، وبالتنويع السابق، أتذكّر أنّ منها كتاب مقالات كتبها غازي القصيبي في فترة حرب الخليج الثانية، وكتاب "أسطورة الأدب الرفيع" للمؤرخ العراقي علي الوردي، بالإضافة إلى رواية وعمل شعري مترجم.
لم يفاجئني الصديق حين أخبرني بأنه أنهى قراءة الكتب، لكنّي فوجئت لمّا قال لي إنه فعل ذلك في ثلاثة أيام، رغم كثرة الزيارات إليه من أقارب وأصدقاء. لكنّ تلك الكتب آنست وحدته في الليل. كنتُ، في السابق، أعيش بعض المعاناة مع القراءة لهذا السبب، فما أشرع في قراءة رواية إلا وأشعر بعد عدة صفحات بالملل الطبيعي، وأتحوّل إلى رواية أخرى، ثم ثالثة ثم رابعة حين يعتريني الملل نفسه. لكنّي أحياناً أنسى أن أعود إلى الرواية الأولى خوفاً من هذا الملل الذي تعزّز بعد أن عدت إلى قراءات في النوع الأدبي نفسه، بينما حين اكتشفت هذه التنويع بين كتب أربعة، شعرت بأنه يمكنني أن أنهيها جميعاً في وقت متقارب، فأنت حين تقف في الوقت المناسب عند أيّ من صفحات رواية، قبل أن يعتريك الملل، وتنتقل إلى كتاب آخر بعيد عن السرد وعوالمه، بذلك تضع روحك معلقة في ما يشبه شوق العودة لإكمال هذه الرواية. وهكذا، سترى نفسك تعود إليها في كلّ مرّة حتى تنهيها، حتى وإن كانت هذه الرواية طويلة نسبياً (كما حدث لي، مثلاً، مع رواية إلياس خوري "باب الشمس"). ستكتشف بذلك أنّها آخر من تبقى من رفاق الرحلة، إذ تتجدّد الكتب الأخرى كل مرّة، والسبب أنّ قراءة الرواية تحتاج إلى تركيز أكبر من قراءة أي كتاب آخر يبنى على المعلومات، وذلك لأنّ القارئ، في الحقيقة يشارك في بناء هذه الرواية من دون أن يشعر. وهذا جزء من جماليات الرواية بصورة عامة، هذا البناء يجعل القارئ متورّطاً فيها، وسيعتريه الضيق عادة إن لم ينهها، خصوصاً إذا كانت رواية جيدة.
بعض الكتب يمكنك أن تنهي قراءتها في جلسة واحدة، لأنها تمتلك صفة الاختيار والانتقاء، مثل كتب المقالات الصحافية التي جمعها أصحابها بعد خبرة طويلة في الكتابة، أو كذلك بعض كتب المختارات من التراث العربي، بينما الرواية مثلاً المبنية على خريطة وعوالم تفاصيل متراصّة يصعب فعل ذلك القفز معها. لذلك، يمكّن اختراق عوالمها بقراءات بعيدة عن السرد الروائي من أن ينهيها بمتعة متقطعة.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي