التطبيع والصيد بالرِماح

التطبيع والصيد بالرِماح

09 مايو 2024
+ الخط -

كتب السفير الإماراتي لدى الولايات المتّحدة يوسف العتيبة مقاليْن في "يديعوت أحرونوت" عام 2020، واحد قبل توقيع بلاده اتفاق التطبيع مع إسرائيل، والثاني بعده. تحدّث في الأوّل عن "إيمان" بلاده بأنّ إسرائيل "فرصة" وليست عدوّاً، وأنّها والإمارات تملكان جيشيْن من بين الأفضل في المنطقة، وتواجهان مخاطرَ مشتركة، وبإمكانهما بالتالي إيجاد تعاونٍ أمنيٍ مشتركٍ، بما يؤدي إلى ربط إسرائيل بالمنطقة والعالم.

ساق العتيبة هذه المقدّمات للتمهيد لما سيتحقّق بعد شهرين فقط من نشر مقاله، وهو الإعلان عن تطبيع بلاده علاقاتها مع إسرائيل في أغسطس/ آب من العام نفسه. ولم تتضمّن مرافعتُه (أو مقاله) ذكراً صريحاً للفلسطينيين أو قضيّتهم، باستثناء تحذيرٍ خجولٍ من خطورة ضم رئيس الوزراء الإسرائيلي نحو 30%؜ من أراضي الضفّة الغربية، بالقول إنّ هذا سيقوّض جهود السلام، وقد يؤدّي إلى نهاية التطبيع العربي مع إسرائيل. في المقال الثاني، الذي نشرته "يديعوت أحرونوت" على صدر صفحتها الأولى بعنوان "شالوم عليكم"، بعد نحو أسبوع من اتفاق التطبيع الإماراتي - الإسرائيلي، كتب العتيبة أنّ الاتفاق أوقف ضمّ الأراضي الفلسطينية، وفتح الباب أمام مستقبلٍ أفضل للشرق الأوسط. ولكن ذلك كان مُضلّلاً بشكل فجّ، فنتنياهو لم يَعِد، لا في السرّ ولا في العلن، بإلغاء خطّة الضمّ، وكان أقصى ما ذهب إليه تعليق تنفيذها، ولم يخيّب نتنياهو ظنّ كثيرين يعرفون أنّه يكذب، وأنّ العتيبة يُروّج بضاعةً فاسدةً، فقد أعلنت حكومته بعد شهر من توقيع اتفاق التطبيع رسمياً في سبتمبر/ أيلول، عن موافقتها على بناء أكثر من ثلاثة آلاف وحدة استيطانية جديدة في الضفّة الغربية. ومن المفارقات الكاشفة للبروباغندا الرخيصة، التي بذل العتيبة جهداً كبيراً في ترويجها، أن يكون مُعدّلُ الاستيطان في عام التطبيع الإماراتي هو الأعلى على الإطلاق منذ عام 2012.

يتمّ الصيدُ بوسائل عدّة، وثمّة صيدٌ بالشَبَكة، وهو جماعي، وتسعى إلى مثله إسرائيل، وثمّة نوعٌ آخر بالحصار والإنهاك، كأن تُعزَل الفريسة عن القطيع وتُجبر على سلوك طريق ضيّق ووحيد، قبل إنهاكها وحصارها والانقضاض عليها بالرماح، وهذه التكتيكات طُبّقت على البشر أيضاً في حِقَبِ العبودية، ويبدو أنّ إسرائيل ما زالت وفيّةً لتقاليد الصيد المتوحّش. وإذا كان هذا شأنها، فالمستغرب أن تعيد الفريسة سيرتها، وترضخ لتكتيكات قاتلها، فلا تفيد من خبراتٍ سبقت، ولا تسعى إلى كسر المعادلة نفسها وتفكيك أسسها.

يردُّ محلّلون ما توصف بسياسة الصبر الاستراتيجي لدى الإيرانيين إلى تقاليد إنتاج السجّاد ولعبة الشطرنج، وهو ما تفعله شعوبٌ أخرى لكن بأدوات مُعاصرة واستراتيجيات مُركّبة، وتجربتا الهند ومصر في التفاوض على شراء مقاتلات رافال الفرنسية، قبل أكثر من عشر سنوات، توضّح الفرق بين من يُفاوض لمصلحته ومن يصرّ، المرّة تلو الأخرى، على إطلاق النار على قدميه بسلاحه الشخصي، وعلى حسابه، ووسط تصفيق مُناصريه. نقول هذا ونحن نشهد عمليّاً عملياتِ تفاوضٍ مكتومة نعرف خطوطها العامة ولا نعرف شيئاً عن آلياتها، وتجري بالتوازي مع حرب الإبادة على غزّة، ويفترض أن تتضّح صورتها وتفاصيلها بعد وقف النار، وبدء عمليات تبادل الأسرى بين إسرائيل و"حماس". وفقاً لمستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، فإنّها تشبه لعبة "بازل"، إذ لا يمكن فصل قطعةٍ عن باقي القطع الأخرى إذا أردتَ النجاح في تركيب الصورة المطلوبة، وهذه القِطع في التصور الأميركي تتكوّن من إنهاء الحرب في غزّة، تفكيك "حماس"، وإنشاء سلطة "مُنشّطة"، وتقابلها قطع أخرى (اتفاق دفاعي أميركي سعودي متعدّد الجوانب، وتطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب)، ولا يمكن عزل هذه عن تلك القطع، رغم أنّ ثمّة قطعة غائبة يتمّ الحديث عنها بشكل غائم، ما زالت تبحث عن مكانها، وهي الدولة الفلسطينية، يُفترض أن تؤدّي القِطع كلّها إلى تثبيتها بالتوازي مع السلام الشامل أو التطبيع الكامل في المنطقة.

المأمول ألا تُكرّر السعودية ما فعلته الإمارات، فهي الجائزة الكبرى بما تمثّله من مكانة فريدة في المنطقة والعالم الإسلامي، وعلى ضوء موقفها واستراتيجياتها في التفاوض يتوقّف احتمال انتزاع دولة فلسطينية من أنياب نتنياهو، بعد أن تمرّدت الفريسة الفلسطينية على الدور الذي أُريد لها، فنجت وانتصرت في الميدان، رغم أنّها أُثخنت جراحاً.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.