أوروبا "ما بعد بعد الكولونيالية"

12 يوليو 2023
+ الخط -

ما بعد الكولونيالية أو الاستعمارية هي الدراسة الأكاديمية للإرث الثقافي للاستعمار والإمبريالية، وتركز على التبعات البشرية لاستغلال السكان الأصليين في الأراضي المستعمَرة والسيطرة عليهم وعلى أراضيهم. وبمعنىً آخر، فإن "ما بعد الكولونيالية"، ببساطة، تحليلٌ نظري ونقدي لتاريخ وثقافة وأدب وواقع القوى الاستعمارية الأوروبية وأثرها على التجمّعات البشرية المستعمَرة.

ظهر المصطلح في الربع الأخير من القرن العشرين، وقد تداخل هذا المنهج الفكري التحليلي بالعلوم السياسية والفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، إضافة إلى تأثيره على الأدب والدراسات النقدية ودراسة التاريخ المعاصر وغير ذلك. وتفرّعت عن دراسات "ما بعد الكولونيالية" عدة تخصّصات، من أبرزها دراسات التابع التي امتازت بها الباحثة والناقدة الأدبية الهندية غياتري سبيفاك، والأكاديمي الهندي في جامعة هارفرد، هومي بابا، وغيرهما.

"ما بعد الكولونيالية" المصطلح الذي أقحم نفسه في معظم المجالات الثقافية (أدبيا ونقدياَ) والفلسفية والسياسية والاجتماعية، أصبح مصطلحاً ذا دلالة على تفوّق حداثي ومعرفي، لمن يتناوله ويتداول به، ولعلّ المفارقة أن ظهور المصطلح (وإن كان إدوارد سعيد أبرز من وضع الإطار النظري له من خلال كتابه "الاستشراق" الصادر عام 1978)، وتبلوره وانتشاره كان في أوروبا على أيدي فرانز فانون الكاتب الفرنسي الذي دعم جبهة التحرير الجزائرية والمفكر والناشط السياسي أنطونيو غرامشي والفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ميشال فوكو الذي كان من أوائل المفكّرين الذين نقدوا الكولونيالية (الاستعمار) ووضعوا أسس هذه النظرية المعرفية بشكل مترابط ومتكامل، رغم أن بذورها كانت موجودة في طروحات مفكّرين سابقين.

كان أحد تمظهرات الاستعمار المباشر انتقال عشرات الآلاف من الأوروبيين إلى أفريقيا وآسيا، وبالتالي، كانت الهجرة من الدول الاستعمارية إلى المناطق المستعمَرة

ولنا أن نتساءل الآن، بعد مرور حوالي 40 عاماً على ظهور المصطلح وانتشاره، ما الذي يحدُث الآن؟ فانتشار الدراسات ما بعد الكولونيالية الفكرية والتحليلية والمنهجية نتيجة مباشرة للاستعمار ومضادّة، بشكل أو بآخر، للفكر الاستعماري الاستعلائي. وهذه الدراسات والتحليلات، تمّت وتتم من المفكرين الغربيين (أبناء الدول الاستعمارية) والمفكّرين والأدباء والدارسين (أبناء الدول المستعمَرة). وبالتالي، هذه الدراسات هي نتيجة مباشرة لما حدث بعد تحرّر الدول المختلفة في أفريقيا والشرق الأوسط والهند وغيرها، عسكرياً من الاستعمار المباشر.

أما المصطلح الذي أقترحه فهو "ما بعد بعد الكولونيالية" أو دراسات (المتبوع) - Next post colonialism (Senior/ superior/ dominant Studies). ويهدف هذا المصطلح المقترح إلى تنفيذ دراساتٍ حول الخطاب ما بعد "بعد الاستعماري/ الكولونيالي". وبمعنى آخر، يهدف إلى قراءة المشهد الحالي في أوروبا الاستعمارية والدول المستعمَرة. ولعلّ من أبرز تمظهرات هذا الخطاب تتمثل في الهجرة إلى الدول الأوروبية ومواقف الدول من المهاجرين إليها.

بإطلالة سريعة على المفاصل التاريخية في القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر، نعرف أن الدول الاستعمارية لم ترسل فقط جيوشها المدجّجة بكل أنواع العتاد والأسلحة إلى الدول التي احتلتها، بل أرسلت معها، على سبيل المثال، البعثات التبشيرية إلى أفريقيا والهند والشرق الأوسط والبعثات الاستكشافية والمتخصّصة في دراسة الآثار إلى عدة دول، وتحديداً مصر، وشركات البحث عن الثروات وغيرها. بل وعملت على استيطان عدة مناطق، منها الجزائر وجنوب أفريقيا، ودفعت باتّجاه هجرة اليهود من مختلف أنحاء أوروبا إلى فلسطين بمختلف الوسائل اللاشرعية، وكان يُفترض هجرتهم إلى أوغندا.

بمعنىً آخر، كان أحد تمظهرات الاستعمار المباشر انتقال عشرات الآلاف من الأوروبيين إلى أفريقيا وآسيا، وبالتالي، كانت الهجرة من الدول الاستعمارية إلى المناطق المستعمَرة، واستمرّت عشرات الأعوام. ومع خروج الاستعمار وتحرّر معظم الدول، ولو ظاهرياً من مظاهر العسكرة (مع بقاء قواعد عسكرية فيها)، ظهرت بعد 20 عاماً دراسات ما بعد الكولونيالية، للتعرّف على الآثار التي خلّفها الاستعمار على الشعوب في مختلف الجوانب (اقتصادية، ثقافية، اجتماعية، فكرية ... إلخ) نتيجة الانتهاكات التي قام بها للثقافة والموارد وكرامة الإنسان.

هجرة الشعوب المستعمرة سابقا إلى أوروبا اليوم منطقية جداً للمطالبة بحقوقها والاستمتاع ولو بقدرٍ ضئيلٍ من ثرواتها المنهوبة

والآن، بعد أكثر من مائة عام على بدايات الاستعمار، وأقل من نصف قرن على التحرّر الكامل منه، يبدو أن الدراسات التي تناولت ما بعد الكولونيالية لم تتناول سوى قمّة جبل الجليد، لأن ما خفي أعظم، ونحن نرى الآن آثاره المدمّرة والكارثية على الشعوب التي جرى استعمارها والنظرة الفوقية الاستعلائية التي تمارسها الدول الاستعمارية عليها.. نعم "الآن"، والإنسانية تعيش القرن الحادي والعشرين في أوج العولمة والتطوّر العلمي والمعرفي في الغرب، وأخيرا في الشرق الأقصى، وافتتاح عصر الذكاء الاصطناعي بال"جي بي تشات"، يقابل ذلك ما تعانيه الإنسانية الأخرى (التي استُعمرت) من آثار الدمار الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والنفسية التي وسمها الاستعمار بها. فمن ناحية، ما تزال آثار الاستعمار ونتائجه موجودةً بقوة في الدول المستعمَرة، بل وتتفاقم سلبياً بمرور الوقت، على جميع الأصعدة. لقد خرج الاستعمار بجيوشه، لكنه، من ناحية أخرى، خلخل، قبل رحيله، البنى الثقافية والإرث الحضاري القديم، ونهب الثروات النفطية والمعدنية، ودمّر الثروات الزراعية والحيوانية، وجزّأ البلد الواحد وخلّف شركاته وراءه، لترث ما تبّقى وتتركها خراباً.

وفي النتيجة، تعلمت الأجيال التي وُلدت ما بعد الكولونيالية في الدول المنهوبة لغات الشعوب الاستعمارية، وتعرّفت عبر العولمة التي فرضتها أميركا، على تلك الشعوب الغربية... على حياتها وحرّيتها ومستوى معيشتها المرتفع، والخيرات التي تتوفّر في متناول الأيدي، كان لا بدّ من الهجرة إليها، ولو كان الثمن الحياة. وبالتالي، موجات الهجرة غير الشرعية التي يقوم بها الأفارقة و/أو المجموعات المهاجرة (بطرق شرعية أو غير شرعية) من جنوب آسيا ومن العراق وسورية ولبنان، إلى أوروبا، هي النتيجة غير المباشرة والأهم للاستعمار، وهي تمثّل ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة "ما بعد بعد الكولونيالية"، لأنها تمثل مرحلة جديدة من العلاقة بين الدول الاستعمارية والمستعمَرة.

على كل دولة استعمرت شعباً، أن تستقبل جميع مهاجريه وتفتح لهم الأبواب، وتؤمّن لهم أفضل معيشة كأيّ مواطن من مواطنيها

إنها الهجرة المضادّة لهجرة المستعمِرين التي كانت تتم في عهد الاستعمار إلى الدول المستعمَرة، وهي هجرة شرعية في كل الأحوال، لأن الرفاهية التي تعيش فيها شعوب أوروبا ناتجة عن نهب ثروات الشعوب الضعيفة والفقيرة. وبالتالي، هجرة هذه الشعوب إلى أوروبا منطقية جداً للمطالبة بحقوقها والاستمتاع ولو بقدرٍ ضئيلٍ من ثرواتها المنهوبة.

أما المسألة الأخرى والأهم، فهي التعرّف على الأثر الذي سينتج عن تدفّق اللاجئين والتغير الديمغرافي والثقافي والاجتماعي الذي سوف يطاول المجتمعات الأوروبية، شاءت ذلك أم أبت، عاجلاً أم آجلاً.

من الضروري الإشارة هنا إلى الفوقية في تعامل الدول الاستعمارية مع المهاجرين ومحاولات وضع حدّ للهجرة، وكل دولة تلقي بهم على دولة أخرى. هذه الفوقية غير منطقية، وتحديداً إذا ما تمعّنا بما يحدث، فالليبي يهاجر إلى إيطاليا التي استعمرته والمغربي والسنغالي إلى فرنسا والهندي إلى بريطانيا والعراقي كذلك، ولا أحد منهم يفكّر في الهجرة إلى رومانيا أو التشيك أو روسيا مثلاً. وهكذا، يضع كلَّ مهاجر نصب عينيه في معظم الأحيان، وبعفويةٍ منطقية غريبة، الدولة التي استعمرته عسكرياً وثقافياً ولغوياً. وبالتالي، فإن المقترح الذي يجب المطالبة به، أن على كل دولة استعمرت شعباً، أن تستقبل جميع مهاجريه وتفتح لهم الأبواب، وتؤمّن لهم أفضل معيشة كأيّ مواطن من مواطنيها، وهذا أقلّ ما يمكن عمله تكفيراً عما قامت به من نهب خلال فترة الاستعمار وما بعده.

601CD64B-7250-4FB2-B2A1-F72C4D604F72
601CD64B-7250-4FB2-B2A1-F72C4D604F72
سامية العطعوط

كاتبة وباحثة وقاصة وروائية من الأردن، بكالوريوس في الرياضيات، لها عدة كتب وأعمال إبداعية، وحازت عدة جوائز أردنية وعربية.

سامية العطعوط