أهل الفن خط دفاع وهمي

أهل الفن خط دفاع وهمي

28 مارس 2024

(حسين ماضي)

+ الخط -

مثلاً، ماذا لو مدّ الله في عمر الرائعة الراحلة الفنانة فاتن حمامة؟ ماذا كانت ستفعل أمام نقص قيمة الجنيه أمام الدولار كحائط سد أخير حماية لعملة بلادها، أو هل كانت ستجدي ابتسامتها مثلا في إرجاع أبي أحمد في إثيوبيا عن خطة الملء الخامس؟ وهل ستعيد صفاء أبو السعود بعد أيام القطن طويل التيلة ثانية إلى التصدير، إلى موانئ باريس ولندن في السفن، فتوفر العملة الصعبة للأسواق، أم سوف تكمل بنفسها مشروع الأربعة ملايين فدّان قمح، فننام وقد ارتحنا لملء الصوامع؟ أعرف أن لحن محمّد عبد الوهاب أغنية "محلاها عيشة الفلاح" كان طرياً ومهدهداً لقلق أولاد المدن ولوسائد الحكام وأبو قردان وللعساكر في كل الوحدات العسكرية وللفلاحين أيضاً، وهم يأكلون المش بدوده. وهكذا هي الحياة دائما نعيشها كنسيج مضفور بين الضحك والدموع من قديم الزمان، ولكن دائماً أتساءل: هل تجدي مشية ليلى علوي مثلا على شاطئ النيل لإنتاج "أقماع السكر" ثانية ونردم به الأسواق؟ وهل يجدي مسلسل "الاختيار 17" في ردم بحيرة البرلس وإنتاج مليون طن من الأسماك الجيدة لجنود خط النار، أو زراعة نبات عبّاد الشمس بطريقة التنقيط في رمال العوينات؟

أتساءل كمعظم الحالمين بالطبع هل تجدي مسرحيات الرياض كلها في وصل جسر من ميناء العقبة بأقرب نقطة يابسة في السعودية أو إنزال زكائب التمور إلى أهلنا في غزّة بحيلة فنيّة متفرّدة تتعجب منها "إسرائيل"، وليكن بطائرة محمد رمضان الخاصة أو طائرة ياسمين صبري أو عمرو دياب.

أتساءل في كلّ مرة، ولا أجد أي جواب، هل أضاف مثلا زرياب بعد وتره السادس للعود معلومات إضافية لعلم الجراحة أو الصيدلة بعدما عكف على شروحات ابن سينا أو الكندي أو الفارابي؟ وهل أفادتنا آثار الحكيم في فكّ لغز الحروف التي كانت فوق حجر رشيد؟ وهل طوّر الممثل طارق النهري في تقنية صناعة الطبنجات، بعدما رأيناه بطبنجته في ميدان التحرير ممسكا بأسير من "إسرائيل"، أو حتى طوّر في صناعة البارود وعمل المسدّسات بطاقات أكبر مما هي عليه؟ وهل استطاعت "نكات طلعت زكريا" أن تحوّل الرئيس الراحل حسني مبارك من موظّف كبير جدا على رأس الدولة إلى رجل منبسط وودود يردّ القفشة إلى شعبه بأروع منها، أم استبدله بـ"طبّاخ آخر"، ويرحم الله الجميع، فما الذي يجعل الحاكم خفيف الظل، أي ظلّ، ويجعل روحه تحاول في كل مرة مهفهفة وعالقة بعطور أهل الفن، وأهل الفن بالطبع في حاجة إلى هذا الوسام بعدما ذهبت الأضواء عنهم ورحلت من سنوات، ولكن دائما يقال "إن ذبل الورد"؟.

هل حظ الفنان في كل مرّة يكون هكذا بهذا الشكل، لأنه لا يشبع أبداً من الثناء حتى في جنازته، وحظ الحاكم أكثر عُسرا من حظ الفنان بكثير، لأنه يحتاج في كل نكبةٍ إلى من يقف بجواره، كي يدفع عنه بالعطور والابتسامات نكد معيشة الناس التي هي بالملايين، وليست تلك التي في القاعة وقد جاءت مهندمة وحافظة ومؤدّبة جدا وعلى المسطرة؟

معادلة صعبة ومحيّرة، فكلام الليل لا يصمد في الظهيرة أمام لهيب الشمس، فما بالك بلهيب الأسعار؟ ... أعرف أن من أوشك على الغرق يتعلق بقشّة، فما بالك إذا كانت تلك القشّة فيها ابتسامة فاتن حمامة، حتى وإن قاربت على الثمانين وفاقتها بسنوات، أو خفّة روح صفاء أبو السعود حتى بعدما تركت الفن منذ سنوات، ولديها طائرة خاصة بعيداً عن الشعب، ولا تنتظر زجاجة الزيت أو نصف كيلو المكرونة المعبأ من أمام شوادر "أهلاً رمضان"، فهل في قدميها "شبشب" بلاستيك ومحتارة في أجرة التوك توك بعد الحصول على تلك الغنيمة، فما بالك لو كانت فاتن حمامة هي الساعية إلى زجاجة الزيت ونصف كيلو المكرونة، لأنها تمثل الجزء الثاني من "أفواه وأرانب"، وأولادها في انتظارها على العتبة جوعى.

تخيّل ذلك مثلاً، من دون أن تنزل مثلاً الراحلة فاتن حمامة، ولو حتى بخيالها من "فيلا المقطّم" إلى مدينة دار السلام، والمخرج، مخرج روائع الفقراء، في انتظارها بجوار حمام السباحة لمدة سنة بالسيناريو معطّرا، وهي مرّة توافق، ومرّة تعتذر لظروف سفرها. وفي النهاية، وافقت على مضض، بشرط أن يتم التصوير كاملا، في مدينة "كدار السلام تماما" في استديو نحاس. والغريب أن المنتج وافق على كل طلباتها، ولكنها في آخر ساعة أضافت شرطين إضافيين للعقد على أن توافق بعد الموافقة على الشرطين: أولا، أن ينقل استديو نحاس كله إلى سفح الهرم وتعويض أهالي عزبة نزلة السمان عن كل الأضرار الاقتصادية. ثانيا، أن يتم التعاقد مع الممثل كامل بيومي بطلاً أيضا بأجر محترم، فجاءت الموافقة بسرعة البرق، إلا أن المنتج في النهاية هرب إلى دولة عربية صديقة، ثم اختفى من دون أن تصل السلطات هناك إلى أي أثرٍ يدلّ عليه، وما زال المشروع مركونا منذ سنوات.