"على خط جرينتش" .. بين المقاومة والسأم

"على خط جرينتش" .. بين المقاومة والسأم

24 أكتوبر 2020
+ الخط -

هل هو السأم من المقاومة؟ أم المقاومة عبر التظاهر بالسأم؟

في رواية الكاتب المصري، شادي لويس الجديدة، "على خط جرينتش"، تطغى لغة الاعتياد والملل على سرد أحداث الرواية، مهما بلغت غرابتها. منذ الصفحات الأولى، نتعرّف على عقدة القصة، وهي سعي البطل المهاجر إلى دفن جثمان لاجئ سوري في لندن. يصف البطل قصة غياث بأنها "كانت مملة بعض الشيء ومخيبة للأمل"، ثم نتعرّف، عبر تفاصيل مطولة، أن هذه القصة "المملة" تشمل هروبه مرّتين من سجن النظام والمعارضة، ثم أهوالا شتى في رحلة اللجوء التي شملت عبور حدود 57 دولة، ونجاته من ميتات متنوعة بين زلزال في غواتيمالا، وتمساح في بوليفيا، والاحتراق في برلين، والغرق في اليونان لولا تمسكه بجثة طفل طافية.

تطرح الرواية أسئلة العبور المختلفة على كل الواقفين حول "خطوط جرينتش"، المنظورة وغير المنظورة، تتداخل الفوارق بين الأعراق والثقافات والطبقات، وبين الوهم والحقيقة.

بطل الرواية مصري قبطي لكنه يبدو كالمسلمين، فتتم معاملته مثلهم، مهما بالغ في إبراز مسيحيته، وهو يعمل في أدنى السلم الإداري البريطاني، حيث تنطبق نظرية رفيقه النيجيري كايودي التي تعرّف السود هوية طبقية لا عرقية. وبهذا المفهوم، فإن الأيرلنديين، والشيوعيين، والمثليين، والصينيين، هم جميعا من السود. وبالطبع كل من يعمل في الأعمال الدنيا هو منهم، وذلك على الرغم من أن السود بدورهم مقسمون إلى درجات. ولكن الأسود قد يزول سواده أيضا، "فأي شخص يملك حمام سباحة في بيته هو أبيض بلا شك".

يمكن وضع الرواية في سياق المشروع الروائي قيد التشكل للكاتب. في روايته الأولى كان يستعرض رحلة قبطي مصري يحاول الهرب من سلطة المجتمع والدولة في مصر، وكذلك من سلطة الكنيسة، حتى يفشل، في النهاية، ويضطر للاستسلام لكل السلطات. في روايته الثانية، نشاهد ما سيحدث، لو كان البطل قد نجح في الهرب، لن يجد أيضا جنته الموعودة. سيصاب بخيبة الأمل نحو "حرية التعبير" حين يشاهد ركن الخطباء في "هايد بارك" الذي يحتوي مجموعة من المهاويس. وسيجد نفسه تحت سطوة أنماطٍ أخرى من السلطة أقلّ فجاجةً، لكنها أكثر تغلغلا.

وعلى الرغم من أن الرواية قد تصنف باعتبارها تقدّم طرحا نقديا للحضارة الغربية، أو "ما بعد الكولونيالية"، لكنها كسابقتها خالية من الخطابة الشعبوية، ولا تمنح الضحايا بدورهم صكوك الملائكية، فوالدة البطل القبطية الخاضعة لأي أذى يتعرّض له نجلها إذا جاء من أطفال مسلمين، انتفضت لضرب أطفال آخرين، ظنت أنهم لاجئون فلسطينيون.

في مقاطع عديدة في الرواية، يظهر تأثر الكاتب بأفكار ميشيل فوكو، حيث السلطة مبثوثة بنيويا في المباني، وفي الإجراءات والدفاتر والأراشيف. لكن البطل يحاول المقاومة بأفعال مثل سعيه إلى دفن السوري أصلا، لكنه يقدّم تبريرات لتلك الأفعال، تبعدها عن شبهة الملحمية والأخلاقية، كأنها حيل لعزاء النفس، إذا خاب المسعى في النهاية كما اعتاد. وعلى مستوى آخر، يتحول الانتظام في "الجيم" إلى فعل مقاومة ذاتي، حيث لم تبق له سلطة على شيءٍ يمكن قهره وضبطه إلا جسده الخاص.

لكن الرواية تعود إلى طرح سؤال أصعب: ألا يمكن أن تكون هذه السلطة المتحكمة خير من حرية البشر؟ زميلته الموظفة العنصرية تذوب في البيروقراطية، عاجزة عن إضرار من تشاء، بالضبط كما تذوب أيضا قدرته بدوره على مساعدة طالبي الحصول على سكن المجالس المحلية.

في مشهدٍ لافت، يتجادل مع زميله في العمل حول فعالية اختبار تقييم الحالة العقلية للاجئة من الطبيعي ألا تتعرف على "الكانجارو"، وهي القادمة من جبال كردستان، وأن "الحقيقة" هي أن هذه اللاجئة "عندها من الحكمة والبلاغة أكثر من كلينا معا"، لكن زميله يردّ "الحقيقة هي ما تقوله نتائج الاختبار، وما تعتمده هيئة الصحة الوطنية"، ويقدّم سردية عكسية: "هذا ليس وضعا مثاليا، لكن يجب على كل مجتمع أن يجد مقياسا للأشياء".

يعترف زميله أنه شخصيا يودّ أن يلقي بالمرأة في الشارع حتى تموت جوعاً، لأنها نعتته بالعبد حين ظنت أنه لا يعرف اللغة العربية، "صدّقني السيستم يحمينا من أنفسنا".