غزّاويّات: تحت الطاولة بلا أبي

غزّاويّات: تحت الطاولة بلا أبي

22 يوليو 2014
ملجأ من الوهم (عن نجموعة مود/Getty)
+ الخط -
قبل 32 عاماً ركضتُ، مع إخوتي الأربعة، واختبأنا تحت طاولة خشبية لا تتّسع لأكثر من شخصين. كان لجوؤنا إلى الطاولة الخشبية بناءً على استراتيجية أبي الدفاعية، للاحتماء من الطائرات الإسرائيلية التي أحسسنا باقترابها، كما لو أنّها جاثمة فوق صدورنا.

عندما اجتاحت إسرائيل لبنان في العام 1982 كنت في السابعة من عمري. لم يكن باستطاعة أيّ طفل أن يتخطّى مشاعر الخوف من منظر الطائرات الحربية الإسرائيلية التي كانت تغير علينا. لم يكن الأطفال خائفين فقط، فلجوء أبي إلى الاحتماء بالطاولة كان يدلّ على أنّ الجميع، من دون استثناء، خائفون. فماذا يعني أن يختبىء أربعة أطفال تحت طاولة تتّسع لشخصين فقط؟ وماذا يعني أن تحمي طاولة من خشب رقيق أربعة أطفال من وحش حديدي، يلقي عليك حينها ما يُسمّى بالـ"قازان"؟

كان حجم الطائرات، كلّما أغارت على مقربة منّا، يخيف أيّ طفل. لكن نصيحة أبي بأن نركض إلى تحت الطاولة لا تعني إلا أنّه، هو نفسه، كان خائفاً. أدركت ذلك مؤخّراً فقط. و"القازان" نفسه عاد إلى ذاكرتي حين حطّ فوق مبنى سكني في حلب. فوراً عدت بالذاكرة إلى تحت تلك الطاولة. تحتها كنتُ أمسك بيد أختي الصغيرة، مرتعداً من الصوت الذي دوّى في بستان حديقتنا الجبلية. عاصفة من الرمل مصحوبة بكمّ من الخيالات السوداء اجتاحت الغرفة، تسرّبت نحو الطاولة وغمرتنا. كنّا صغار الحجم بما فيه الكفاية لتغمرنا تلك السحابة الكثيفة السواد. حينها نظرتُ إلى أختي وقلتُ لها: "هذا غول. هذا هو الغول الذي هدّدتنا به جارتنا حين قطفنا التوت من حديقتها".

كان ذاك المقترح البسيط الذي لجأ إليه والدي ليخفّف من خوفنا مجرّد بدعة تخفي عجز رجل شجاع عن حماية أطفاله.

"تحت الطاولة" هو ملجأ من الوهم كان أبي يطمْئن به الأطفال الذين كنّاهم. "تحت الطاولة" ظنّ أربعة أطفال أنّ خشبتين فقط ستمنعان الموت من التهامهم. لكنّ الخوف الحقيقي كان بطلب الوالد نفسه: "تحت الطاولة".

اليوم تجاوز عدد شهداء غزة الـ500. العدد قد يتضاعف ولا أعلم كم طفلٍ منهم التجأ إلى "تحت الطاولة"! لكن ما أعرفه تماماً أنّ الغول حقيقي جداً، وأنّ غزّة كلّها تحت الطاولة. هذه المرة من دون والد. 

دلالات

المساهمون