لوديف تستقبل الشعر المطرود من العالم

لوديف تستقبل الشعر المطرود من العالم

01 اغسطس 2014
جانب من لوديف التي ارتبط اسمها بمهرجانها الشعري (Getty)
+ الخط -
على التلة، حيث بنى الطبيب اللبناني وزوجته البلجيكية منزلهما الفرنسي، الذي يشرف على مجرى النهرين والبلدة والغابات والجبال العالية والبحيرة البعيدة، وقف الرجل الإسباني معتمراً قبّعته الصيفية، مشيراً إليّ أن أتبع بنظري سبابته وهي تدلّني إلى المكان حيث تنتهي الطبيعة المتوسطية، وتبدأ الأوروبية الشمالية.

لون الأرض وأنواع الشجر، فجأة، يختلفان. وما بينهما نهران جاريان نحو الجنوب، بمحاذاة "طريق الشمس"، كما يسمّيها الأوروبيون الزاحفون عند أوّل الصيف نحو مياه البحر الأبيض المتوسط، آتين من الشمال البارد والرمادي، ومتّجهين نحو شواطئ الريفييرا وكان ومرسيليا، أو حتّى نحو إسبانيا وشواطئها.

هناك، عند التخوم الأخيرة للعوالم المتوسطية، في الجنوب الفرنسي السحري والمعتّق، تقبع تلك البلدة القديمة "لوديف". وتبدو مدينة منذورة لكلّ ما هو منبوذ. بلدة آوت المنشقّين عن طاعة الكنيسة، ولجأ إليها بعض يهود إسبانيا إبّان عهد محاكم التفتيش، بل كانت أيضاً ملجأ المناوئين للثورة الفرنسية، ثم إنّها المكان، الذي اختارته حكومة فرنسا الاستعمارية لتوطّن "الحركيين" الجزائريين (المتعاونين مع فرنسا ضدّ الثورة) الذين لا يريدهم أحد، لا الفرنسيون ولا الجزائريون. هم المنسيون وغير المعترف بوجودهم أو بحقوقهم.

"لوديف"، الملعونة بتاريخها واختلافها، ستكون في أواخر الستينيّات أيضاً المنفى الاختياري للكثير من "الهيبيين" واليساريين، الذين سيتحوّلون إلى ناشطين بيئيين، في فترة بدأ خلالها الوعي البيئي يتحوّل إلى سياسة وأيديولوجيا وبرامج عمل مجتمعية. هؤلاء سينقذون "لوديف" من مشروع بناء مفاعلات نووية، وسيستوطن بعضهم البلدة، حتّى باتوا الآن كهولها، الذين يتميّزون عن عجائز الفلاحين المحليين بنمط حياة يحيلنا إلى صور شباب باريس 1968 المتمرّد والوجودي.

هذه الـ"لوديف"، التي كانت آيلة إلى الانطفاء البطيء، ساكنة صيفاً ومهجورة شتاء، باتت في سنوات قليلة مدينة الشعر المتوسطي. كأنّه كان عليها، هي المنذورة لكلّ ما هو منفي ومتروك ومُتخلّى عنه، أن تستقبل الشعر، المطرود الآن من العالم. هذا الكائن الغريب، المضجر، والمنبوذ من ساحات المدن ومن المكتبات ومن البيوت والقاعات.. يجد مطرحه في تلك البلدة، كآخر مكان له في العالم القديم، عالم ضفاف المتوسط.

ما الفائدة التي تجنيها البلدة الريفية إذ تأتي بهؤلاء الشعراء من مقدونيا وكرواتيا وإيطاليا واليونان وتركيا ومالطا وإسبانيا والمغرب ولبنان ومصر؟... ما الذي يحدث عندما تتحوّل ساحة الكاتدرائية المهيبة إلى بابل من مائة لغة بألف قصيدة؟ بين الغروب الملتهب والمساء المشتعل بالنجوم والنبيذ، وعلى مدى أسبوع مجنون بالأصوات والكلمات والشعراء الملعونين والبائسين والممجّدين؟

الناس الذين يأتون هكذا، للتمدّد على الكراسي الصيفية، الذين يسترخون على العشب، الذين يجلسون على ضفة مياه النهر، تحت القناطر الأثرية، الذين يتجمّعون في البهو المعتم القديم، للكنيسة الخربة، المضاءة بالشموع، الذين يتنزهون ببطء ويقفون مبتسمين... هؤلاء وأطفالهم وكبارهم يأتون للإنصات إلى كلّ تلك الأصوات "الأجنبية" الآتية من الشرق المضطرب، أو من صحارى الجنوب المترامية، أو من البلقان المتصدّع، أو من الجزر البحرية التي تشبه الأساطير. وها هي "لوديف" تترجمها وتعيد كتابتها وتطلقها في فضاء عزلتها، في هواء غربتها، كأنّما بذلك تصنع كبرياءها الفرنسي مجدداً. وكأنّها، إذ تجمع الشعراء وتستدعيهم إليها، تحيي زمناً منصرماً، وتجدّد وقتاً فائتاً، وتاريخاً آفلاً.
فإذا كان الشعر هو زهو الماضي، أكثر ممّا هو بطل الحاضر، فإنّ هذه المدينة تستأنف الخيالات السعيدة والهانئة للعالم المتوسطي، المفعم بالنوستالجيا وطرق الماعز والزيتون والكرمة والتين وما بين الإغريق والفينيقيين وروما وقرطاجة...

كأنّ "لوديف"، بالشعر، آخر حصن متوسطيّ كسول وناعس، يحاول صدّ هذا الزحف الأوروبي الشمالي القوي، الواثق من نثره الصناعي. بل كأنّها تستنجد بـ"هويّة" البحر التاريخية وذاكرته، كي تغتسل من لعنتها كمنفى، فتكون، كما رأيتُ عند تلك التلة، بداية كلّ غيوم أوروبا، ومبتدأ شمس المتوسط. هكذا كقصيدة تكتبها الأرض ويسكنها الشعراء.

دلالات

المساهمون