مترو "الويك إند"

24 نوفمبر 2014
يوم الحشر في المترو (Getty)
+ الخط -
لم يكن ثمة مكان نضع أقدامنا فيه، كانت أجساد الركاب تتحرك وفق موجات الزحام. المرأة المسنّة التي سبقتني في الصعود، تمكّنت بفضل عمرها من اجتياز الزحام. ولأنّني خلفها مباشرة، كانت خطواتي تلحق بها وفق قانون الزحام.

كلّما أصعد في المترو، أتذكر خالد الخميسي وكتابه عن السائقين وحكاياتهم، فأقول أنّها ليست فكرة جديدة أن يكتب أحدناً عن المترو، لكن الفارق بين حكايات الخميسي في تكاسي القاهرة وبين المترو الباريسي، أنّ الأولى كانت تحدث مع السائقين، بينما في المترو، نكاد لا نرى السائق، نسمعه فقط حين يوجّه لنا اعتذاراته عن التأخر واضطراره للانتظار أحياناً بسبب عطل في أحد القطارات الأخرى أو المحطات.

في كتاب الخميسي، الراوي تقريباً هو نفس المصدر، السائق بتعدد المواقف، التي يكون فيها الراوي هو الزبون ذاته، الخميسي. أما في المترو، فالرواة كثر. يكفي أن تجلس فقط، لتأتيك الحكايات. ولكي تتقن الصيد، عليك بالعجائز أو الأجانب. هذان النوعان من البشر، يحبان فتح الأحاديث دون الكثير من التحفظات. العجائز ليس لديهم ما يخسرونه، والأجانب أيضاً. عابرو سبيل في المدينة، يغادرون تاركين كل شيء خلفهم.

أنظر إلى الناس على رصيف المحطة، يقفون أفواجاً لا يمكنهم الصعود، الباب لا ينغلق، سائق المترو يوجّه نداءاته راجياً الركاب الابتعاد عن الباب، ليتمكن من متابعة طريقه.

من بعيد، نهض شاب رأى المرأة العجوز وناداها لتجلس مكانه. أفسح لها الركاب المجال لتتمكن من الوصول إلى المقعد. ووفق قانون الزحام ذاته، دُفعْتُ وراءها، ووجدتني أقف جوارها. بدا الأمر وكأننا معاً، نهض الشاب الآخر عن المقعد المجاور وعرض عليّ الجلوس فشكرته، ولم أقبل العرض، لأنني لا أستحق أكثر من الواقفين والواقفات. إلّا أنّ العجوز نادتني، وهي تفسح لي المكان إلى جانبها، بينما الشاب لا يزال بين واقف في مكانه، لم يغادره بعد، ولكنه لم يجلس."اقعدي" قالت لي بالعربية. خجلت من لطف الشاب ودعوة العجوز، فجلست وابتسمت لهما، وشكرته مجدداً.

للمرة الأولى شعرت بأنّ ملامحي الشرقية تخدمني في باريس. حيث حدثتني تلك العجوز باللغة العربية التي لا تعرف غيرها دون شك. قد تعرف بضع كلمات بالفرنسية، لكنّها تجري أحاديثها اليومية بالعربية، وأعتقد أنها أحسّت أنّني من بلد عربي. ثمّ أدارت رأسها، ونامت وسط الضجيج. كنت أتابع التفكير في كتاب خالد الخميسي، وأقول لنفسي لو أنني أدوّن حكايات المترو، والأحاديث التي تجري بين الركاب الذين لا يعرفون بعضهم، والذين تجمعهم صدفة الطريق في محطات قصيرة، يتبادلون فيها أحاديث سريعة، وأخرى معقّدة، تصل إلى معاناة الركاب في حياتهم الشخصية. وأشكر ربّي لإتقاني بعض اللغات، التي تجعلني أفهم حوارات الركاب من دون أن يعرفوا أنّي أفهمهم: امرأة عربية تشكو لصديقتها بالعربية معاناتها مع أخيها. صبية تتحدث بالكردية مع حبيبها على الهاتف... لو أنّي فقط أملك بعض الوقت، لجلبت أوراقي، وأخذت الخط من أوّله، واخترت مقعداً مريحاً، والتقطت حكاياتي في كل جولة.
دلالات
المساهمون